تقوم الأستاذة الجامعية المغربية سناء درغموني بمجهود كبير في الترجمة من العربية إلى الإيطالية ومن الإيطالية إلى العربية، وهي الحاصلة على الدكتوراه تخصص الأدب المقارن. تعمل أيضا أستاذة جامعية للأدب العربي واللغة العربية في جامعة بولونيا وجامعة فينيزيا. تميزت ترجماتها بالتنوع من اللغة الإيطالية إلى اللغة العربية للشاعرة الإيطالية المعروفة فاليريا دي فيليتشي في «باب السعادة» وعربيا محمود درويش في «لا تعتذر عما فعلت» وأشرف فياض في «سيرة مرضية» وهادي دانيال في «رأس تداولته القبعات» ومختارات للشاعرة الليبية سميرة البوزيدي، ومغربيا الشاعر حسن نجمي في «على انفراد وقصائد أخرى» وفي «فكرة النهر»… في هذا الحوار نقارب معها أهمية الترجمة من اللغة الإيطالية وإليها، والمشترك الثقافي والحضاري الذي يجمع بيننا باعتبارنا بلدين متوسطيين. إضافة إلى سمة التنوع الذي تميز إختياراتها، وعن معوقات الترجمة وإشكالاتها في بلداننا حيث ما زالت شأنا فرديا لا تأبه بها المؤسسات الثقافية على مستوى التقدير والدعم الضروريين باعتبارها جسرا هاما بين الشعوب والثقافات المختلفة.
الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الإيطالية، مغربيا هي في حكم النادر، هل هناك أسباب ودوافع ذاتية أو موضوعية وراء هذا الاشتغال الذي أثمر تراكما مهما؟
أولا هناك أسباب موضوعية بحكم مهنتي التي تدفعني إلى ترجمة الثقافة العربية للتعريف بها أكثر ولتقريب المتلقي إلى عالم اختار أن يدرسه ويقتحمه، وأظن أن الأدب يفتح آفاقا ويتيح أدوات مناسبة للانفتاح على هذا العالم ولهذا فإن الوصول إلى التجربة الأدبية يساعد القارئ الإيطالي على فهم البلدان العربية وتاريخها وسياقاتها ومجتمعاتها، كما يساعده على فهم الشعوب في عمقها التاريخي حتى لا يتم تلخيص الإنسان العربي عامة أو المغربي خاصة في عدد من الأفراد أو في الرسائل المشوهة التي تروج لها بعض الجهات أو الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة. وهناك أيضا أسباب ذاتية تنبع من شغفي بالترجمة وإيماني بها كأداة لقاء بين حضارات وشعوب تختزن في جعبتها الكثير. الترجمة ليست عملية ميكانيكية أو تقنية بل لها عمق معرفي، هي جسر بين شعوب تستمع إلى بعضها وتقترب من بعضها، شعوب لها ماضٍ مشترك ومشاريع مستقبل مشتركة وهموم مشتركة. كما أنني أنا أيضا أخرج بشيء جديد بعد كل ترجمة، أتعلم الكثير وأحصل على مكاسب على المستوى الشخصي لهذا فأنا مدينة لكل اسم ترجمت له.
لدينا مشترك ثقافي وحضاري قوي بين المغرب وإيطاليا باعتبارهما بلدين متوسطيين، ومع ذلك لا نجد حضورا ثقافيا بينهما، هل يمكن للترجمة أن تسد هذا الفراغ المهول؟
طبعا يمكن للترجمة أن تلعب دورا كبيرا في التقليص من هذا الفراغ. وفي هذا الصدد تعتبر ترجمة الأدب المغربي في إيطاليا مهمة جدا لأن البلدين تربطهما علاقات تاريخية وحضارية قوية وعميقة كما أشرت إلى ذلك في سؤالك. فهناك تقارب ثقافي وإنساني واجتماعي ومدني بين البلدين، هناك أيضا تبادلات تجارية واقتصادية ودبلوماسية، يتقاسم البلدان فعلا شعورا قويا بالانتماء إلى الروح المتوسطية. هناك سبب آخر يجعل ترجمة الأدب المغربي مُلحة في إيطاليا وهو تواجد جالية كبيرة من المهاجرين المغاربة. يتم تضخيم بعض جوانب الهجرة بطريقة سلبية واستغلالها من قبل الأحزاب السياسية لتشويه سمعة المغرب وسكانه، مما يعكس أحيانا صورة مشوهة، ولهذا السبب أعتقد أن نشر أدبنا المترجم يمكن أن يساعد الإيطاليين على إدراك ثراء الثقافة المغربية وأصالة الشعب المغربي. إن الترجمة إذا ما تم تقديمها بشكل صحيح، فإنها قد تقرب بين البلدين وتعزز الروابط القديمة والجديدة. لا بد لي هنا أن أشيد بالعمل الكبير الذي يقوم به المعهد الثقافي الإيطالي في الرباط لتوطيد الروابط الثقافية بين البلدين ولتعزيز هذا الحضور، من خلال فعاليات ومبادرات مهمة يحضر فيها البلدان بقوة. آمل أن يستمر المعهد في نهجه هذا.
تميزت ترجماتك بالتنوع من اللغة الإيطالية إلى العربية مع الشاعرة الإيطالية المعروفة فاليريا دي فيليتشي في «باب السعادة»، وعربيا محمود درويش في «لا تعتذر عما فعلت»، أشرف فياض في «سيرة مرضية» وهادي دانيال في «رأس تداولته القبعات» ومغربيا الشاعر حسن نجمي في «على انفراد وقصائد أخرى» وفي «فكرة النهر». هل هذا التنوع كان مقصودا، أو اختيارات شخصية محضة؟
هي اختيارات شخصية محضة لكن رغم ذلك تحكمها دوافع التنوع والانتقائية وتدخل فيها أيضا جوانب الصداقة مع بعض الشعراء الذين أترجم لهم والإعجاب الشخصي بالأعمال. كما أنني أتعمد ألا أتوقف عند بلد واحد بل أحاول أن تشمل ترجماتي عدة بلدان عربية وأختار أيضا مادة تلائم ذائقتي وقريبة إلى حسي الشعري لكي أقدم للمتلقي الإيطالي تنوعا يعكس قيمة الأدب العربي وتعدديته.
تعترض المترجم عدة ضغوط، في بلداننا لا يجد الاعتبار الكافي والتقدير الذي يستحقه، وفي معظم البلدان العربية تتحكم دور النشر اعتبارات السوق ومتطلباته، ما يجعل هامش الاختيار ومبادرته محدودة. من تجربتك الخاصة هل تعتبرين ذلك أحد عوائق الترجمة ومشكلاتها؟
لا أتعامل كثيرا مع دور نشر عربية لكني أظن أن بعض عوائق الترجمة ومشكلاتها قد تم تجاوزها لحسن الحظ. فقد أصبحت الترجمة اليوم في معظم الدول العربية علما مستقلا وقائما بذاته له برامجه ودراساته وقواعده الخ وأصبحت تُخصص لها جوائز معترف بها. يبقى عائق قلة الاعتراف بدور المترجم وبحقوقه المعنوية والمادية باعتباره عنصرا فاعلا في العملية المعرفية. أما اعتبارات السوق فهي في نظري مشكلة عالمية وليست عربية فحسب خصوصا عندما يتعلق الأمر بترجمة الشعر، إذ إن دور النشر غالباً ما تسعى إلى نشر أعمال تحترم معايير ومصالح معينة تتناسب مع متطلبات السوق والمبيعات أو تتوافق مع موجة فكرية عابرة أو مرحلة تاريخية معينة كالحروب أو الأوبئة، فيصبح الاختيار محدودا ومقيدا بموضة الحدث وليس ناتجا عن أسباب جمالية محضة. وهنا، على المترجم أن يعرف كيف يحافظ على استقلاليته الفكرية ويدافع عنها، وأن يترجم ما يُرضي ذائقته وليس ما يرضي السوق أومنطق المبيعات والأرباح وألا يتحول إلى مترجم مناسبات.
ما تزال الترجمة في البلدان العربية وخاصة المغرب عبارة عن مجهودات فردية تغيب فيها المؤسسات المعنية بالترجمة وشؤونها، وتفتقد التقدير والوعي بأهميتها الحضارية في التقريب بين الشعوب، على مستوى الجوائز المخصصة ودعم النشر، وحفظ حقوق المترجم…؟
نعم، لا تزال الترجمة على المستوى العربي مشروعا فرديا رغم وجود مؤسسات مُشرفةِ على الترجمة لكن دورها ضعيف وأظن أن السبب يرجع لعوامل مادية وتنسيقية ولغياب إستراتيجيات وخطط طويلة المدى. في رأيي، على المؤسسات المعنية الارتقاء بالمواد المترجمة نحو أرقام ونتائج مقبولة ومواكبة الثورة العلمية وتنويع المواضيع والانفتاح على عوالم جديدة. بالنسبة للجوائز لا أبحث عنها عادة لكني أظن أن المترجم يحتاج إلى تحفيزات وتعويضات وإلى تقدير لدوره كشريك في العملية الإبداعية، كما أنني أظن أن دور النشر عليها أن تعمل أكثر لتسويق الأعمال المترجمة وألا تترك دائما هذا العمل على عاتق المترجم الذي يجد نفسه مضطرا إلى التسويق والترويج على حسابه الخاص. كما آمل أن يحظى المترجم بحضور أقوى في الفعاليات والتظاهرات الثقافية وخصوصا في معارض الكتاب العربية.
تتحكم في اختيارات المترجم عادة عدة عناصر أساسية، قد تكون في معظمها ذاتية، هل يمكن لنا أن نتعرف على أهم العوامل المحددة لاختياراتك في الترجمة؟
العنصر الأساسي الأول هو طبعا العامل الجمالي، بمعنى أنه علي أن أحب النص أولا وأن أتفاعل وأنسجم معه قبل ترجمته. هناك عنصر آخر مهم وهو اختياري لشعراء أحياء في الغالب ليسهل التواصل معهم ولاستفسارهم مباشرة عن بعض الجوانب التي أجد فيها غموضا أو صعوبات وليشاركوني كل مراحل وهموم عملية الترجمة. العامل الثالث هو اختيار مواد تلائم أيضا ذائقة القارئ الإيطالي وتطلعاته.
الغالب في الترجمات التي قمتِ بها كان شعرا، ونحن نعلم أن ترجمة الشعر عملية مركبة يتداخل فيها عنصر الإبداع والروح الشاعرة، كيف تتم عملية الترجمة لديك، وما هو الجسر الأمثل الذي تعبره القصائد بين لغتين متباعدتين على مستوى الصور الشعرية والبناء اللغوي…؟
نعم ترجمة الشعر عملية مركبة ومعقدة للغاية لأن الشعر يجب أن يُترجم شعرا وهناك صعوبات فنية تتعلق بنقل الإيقاع والصوت والصورة الشعرية، لكن المترجم الحقيقي يعرف كيف ينقل المعنى الشعري للنص من خلال اعتماد ترجمة غير حرفية، ترجمة تنتج نصا متكاملا وحقيقيا وأصيلا.
كيف تتم هذه العملية لدي؟ المبدأ الأول الذي أسير عليه هو مبدأ الأمانة الأخلاقية واحترام العمل الأصلي؛ والمبدأ الثاني هو الحفاظ على جمالية النص وسلاسته وعدم التقيد بترجمة حرفية، أحاول أن أحقق توازناً بين القاعدتين كي أصل إلى نتيجة نهائية ترضيني.
لهذا فعمل المترجم هو أولا عمل حضاري يقيم من خلاله حوارا بين ثقافتين وشعبين ولغتين متباعدتين، من المهم أن يعرف المترجم لغته الأم جيدا وأن يجيد أيضا اللغة التي يترجم إليها. الترجمة في النهاية هي عملية إدماج واستضافة وأعتقد أن اللغة الإيطالية لديها ما يكفي من الإمكانيات والتقنيات والأدوات لتستضيف الآداب العالمية وتفتح لها أبوابها، فهي تمتلك جمالية موسيقية خاصة وعبقرية لغوية وروحية تسهلان عملية الترجمة، هذا هو الجسر: لغة قادرة على استضافة لغة الآخر لتحول الاستضافة إلى إضافة.
هل هناك مشاريع جديدة في الترجمة وما الأعمال الأدبية التي تتمنين أن تعبر ضفتي البحر الأبيض المتوسط من الجهتين؟
في هذه الفترة أشتغل على ترجمة أعمال محمود درويش وأعتبر هذا المشروع من أهم مشاريعي الحالية أولا لقيمة تجربة درويش الفنية وهي طبعا غنية عن التعريف وثانيا لقدرة قصائده على إيصال الوجع الفلسطيني إلى العالم وتقريب المتلقي من عدالة القضية الفلسطينية وإبعاده عن الخطابات الإعلامية المضللة، وأظن أنني سأسير في هذا المسار لمدة طويلة. كما أنني أخطط لأعمال مستقبلية عن الشعر المغربي لأن المشهد المغربي المعاصر غني بتعدديته وخصوصياته ويستحق أن يعبر الضفة. كما أن هناك شاعرات وشعراء إيطاليين خصوصا من الجيل الجديد أتمنى أن يصلوا إلى القارئ المغربي.