شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرحوار

 عبد الواحد ابن ياسر للأخبار:   في الحاجة إلى وقفة تأمل عميقة  

 

جمع الأستاذ عبد الواحد بن ياسر بين الممارسة والتنظير والبحث الأكاديمي في المجال المسرحي، فضلا عن الحضور على مستوى الفعاليات المسرحية والثقافية عموما، وإسهاماته في التأليف والتوثيق لمراحل تطور المسرح المغربي والعربي. هنا نتتبع مساره المسرحي في شتى مجالاته، ونطرح معه جملة من القضايا من قبيل وضعية المسرح المغربي بصفة عامة، وأسئلة أخرى تتعلق بالتكوين المسرحي على المستوى التعليمي والأكاديمي والمعاهد المتخصصة، ودور المهرجانات والدعم المسرحي في تطويره وتقدمه إنتاجا وإبداعا، ومسألة التوثيق وحفظ ذاكرة المسرح المغربي، وأخيرا مصير المسرح أب الفنون في مواجهة العصر الرقمي وتأمين وجوده وتطوره.

 

 

جمعتَ بين الممارسة والنقد والتنظير والبحث الأكاديمي في المجال المسرحي. لذلك، خصك “مهرجان مراكش الدولي للمسرح” ضمن منشوراته بكتاب يوثق جهودك التي بذلتها من أجل تطوير المسرح المغربي، تحت عنوان “عاشق المسرح: من الممارسة إلى التنظير”. كيف تم هذا الانتقال من ضفة الممارسة إلى ضفة التنظير؟

 

 

التحقتُ في مستهل سبعينيات القرن الماضي، بإحدى الفرق المسرحية ذات الإشعاع على مستوى حركة “مسرح الهواة”، وهي (النادي الفني المراكشي –كوميديا) المرموقة داخل المسرحي آنذاك، قادما إليها من جمعية مسرحية مغمورة لم تعمر طويلا كما كانت عليه حال الفرق المسرحية في تلك الحقبة من مسار المسرح المغربي ! هكذا شاركتُ ممثلا في مسرحيات (الضفادع الكحلة) و(الرهوط) لمحمد شهرمان، و(التبوريدة) و(القرود في المصيدة) وغيرها، ومشاركا في الإعداد الدرامي لمسرحيات (المهرج) لمحمد الماغوط و(ثورة صاحب الحمار) لعز الدين المدني… على امتداد تلك التجربة التي استمرت عقدا من الزمن. كان للمخرج المستنير عبد العزيز الزيادي الأثر الكبير في اتصالي الاول والمبكر بفن المسرح، أنا وجيل من الممارسين المسرحيين الشباب، لا على مستوى الإعداد والتداريب المسرحية فحسب، ولكن من خلال المناقشات وتداول المنشورات المسرحية (كتب، دوريات، مجلات مسرحية). في هذه الحقبة قمتُ كذلك بنشر مقالات نقدية، يمكن إدراجها ضمن ما يمكن تسميته بنوع من “النقد المواكب” في جرائد (العلم الثقافي، المحرر). بانتقالي إلى باريس لتحضير دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في نهاية السبعينيات، دخلتُ تجربة جديدة في علاقتي مع الفن المسرحي. ولحسن حظي تزامن ذلك مع آخر المراحل الذهبية للمسرح الفرنسي والأوروبي تنظيرا وإبداعا وإنتاجا. وهكذا شاهدتُ على امتداد سنوات الدراسة، العديد من الأعمال المسرحية الكبيرة لمخرجين من عيار (بروك، منوشكين، فيتيس، شيرو، لاصال) وغيرهم، وكتبتُ عن بعض أعمالهم في مجلات ثقافية وصفحات فنية، وبذلتُ مجهودا جهيدا للمزاوجة بين تحضير شهادة الدكتوراه، وبين متابعة الدروس والمحاضرات المسرحية في معهد الدراسات المسرحية، جامعة السوربون 3، والذي كان يجمع أهم وأبرز الاكاديميين والباحثين في حقل الدراسات المسرحية المرموقين: برنارد دورت، آن أوبرسفيلد، أوديت أصلان من الجيل الأول. وأحسستُ بعد عودتي إلى الوطن أن كل ذلك لم يذهب سدى، وانعكس في جزء منه في تولي تدريس مادة المسرح والإشراف على تهيئي البحوث فيه لأول مرة في السنتين الأوليين من تأسيس جامعة القاضي عياض -كلية الآداب بمراكش، وكذلك ظل الحال لأكثر من خمس وثلاثين سنة…

وبموازاة ذلك، كان إصدار كتب في النظرية المسرحية عموما والمسرح العربي والنقد المسرحي، وعدد معتبر من المقالات والدراسات في مجالات مختصة وكتب جماعية. هذا فضلا عن المشاركة في العديد من المهرجانات والملتقيات المسرحية عربيا ووطنيا…

 

مر المسرح المغربي من مراحل متعددة منذ بداياته الأولى، شهد فترات ازدهار وتحولات مختلفة. اليوم وبحكم التجربة والخبرة، في نظرك ما هي الوضعية الحقيقية للمسرح المغربي؟

 

كتبتُ وقلتُ في أكثر من مقام ومناسبة أن المسرح جنس أو فن وافد على التقاليد الثقافية والأدبية العربية وضمنها المغربية، وأن أشكال الفرجة الشعبية التي يزخر بها تراثنا الأدبي والفني ربما كانت بديلا للمسرح ولضرورة التمسرح وتعويضا عنها. وأن هذا الغياب للمسرح عندنا في الماضي لا يضير ثقافتنا وهويتنا في شيء ولا ينقص من قيمتها، ولا ينبغي أن يشكل مركب نقص بالنسبة لنا. وقد شكلت القصيدة (بمختلف أنماطها) والمقامة والحكاية وأشكال الفرجة التقليدية أنماطا من البدائل عن هذا الغياب. ذلك أن المسرح يوظفها نصا وإخراجا وتشخيصا وعرضا، ظهر ويظهر متى ما دعت الضرورة التاريخية والاجتماعية وحتى الأنطولوجية لظهوره. وقد حاولنا منذ أكثر من ثلاثة عقود الدفاع على هذه الفكرة (المأساة والرؤية المأساوية في المسرح العربي الحديث) كأن المسرح العربي ومعه المغربي وليد تقاطع وتداخل عناصر ومعطيات مختلفة ومترابطة في الآن نفسه. بالنسبة للمغرب، كانت لزيارات الفرق المسرحية المشرقية تأثيرات مهمة في اكتشاف المغاربة للمسرح الوافد. وقد تركت أصداء طيبة في أوساط النخبة والأعيان آنذاك في مدن فاس ومراكش والرباط. وبعد ذلك، بثلاثة عقود، أي في مستهل خمسينيات القرن الماضي، كان الحدث الذي سيصير له تأثير حاسم في نشأة المسرح المغربي الحديث فيما بعد، ويتعلق الأمر بتأسيس ما كان يسمى بمركز الأبحاث الدرامية بغابة المعمورة على يد André Voisin،Charles Nugue، Pierre Lucas وإلى جانبهم السادة عبد الصمد الكنفاوي والطاهر واعزيز… ولا يتسع المقام هنا للوقوف على أهم محطات المسرح المغربي وابرز منجزاته، وقد وقفنا على بعض منها في مواضع سابقة.

في العقود الأخيرة، استطاع المسرح المغربي أن يراكم إنجازات هامة في مقدمتها تأسيس المعهد العالي للفن المسرحي وتنشيط الثقافي بالرباط، وتدشين سياسة للدعم المسرحي، وخلق المهرجان الوطني للمسرح بمكناس ثم تطوان. هذا إلى جانب ما يعرفه البحث المسرحي من تراكم علمي ومعرفي في المؤسسات الجامعية، بدا مع الجيل الأول من الأساتذة الباحثين المتخصصين، ويستمر اليوم مع الأجيال الجديدة… وتبقى الخلاصة الأساس من كل ذلك، أن هذه الإنجازات هي اليوم في حاجة ملحة إلى وقفة تأمل عميقة، ونقد صارم، وإعادة نظر شاملة لتحققاتها وانكساراتها ومظاهر إخفاقها.

 

 

انطلاقا من موقعك الأكاديمي ومسارك الحافل في مجال النقد والتنظير، هل بذلنا ما يكفي من جهود في مجال التكوين المسرحي على المستوى التعليمي العام والأكاديمي والمعاهد المتخصصة؟

 

 

 

للأسف أن المنجز أقل بكثير من المؤمل أو اللازم. فبعد أكثر من ستة عقود على تأسيس الجامعة المغربية، ما زلنا نجد أن تدريس مادة المسرح بكليات الآداب حسب النظام القديم، ينحصر في حصة أسبوعية واحدة (ساعتان)، هذا بالنسبة لأبي الأجناس الأدبية والفنية على امتداد قرون !! ومن ناحية الموارد البشرية، هناك مؤسسات جامعية لا تتوفر سوى على أستاذ واحد متخصص لتدريس مادة المسرح خلال أربعين سنة، وبذهابه إلى التقاعد، تُحذف المادة من المقرر وتعويضها بمادة ضمن التصنيف التقليدي لمواد الأدب !…

أما في التعليم الثانوي، فحسب علمي لا وجود لمادة المسرح في المقرر الدراسي، وما يُقرر من مؤلفات يخضع بدوره للمحسوبية واستغلال النفوذ، ولا يخضع لمعايير الجودة والفائدة، وهكذا يضيع عمل الخياط في ثوبه !… وحتى مهرجانات المسرح المدرسي فقد اختفت تماما مع المسرح المدرسي الذي سهر على تأسيسه وترسيخه زمرة من الفاعلين المسرحيين الأوفياء. ولم يبق من المهرجانات الجامعية إلا قلة تحتاج بدورها إلى تقويم وتصحيح المسار بعدما اعتورها الكثير من مظاهر الاختلال والنكوص ! كما أن نوعية التكوين وحقوله ومستوياته في المعهد تحتاج هي الأخرى إلى مراجعة وتقويم وإعادة النظر في كثير منها، محتوى وهيكلة ومردودية.

 

تتساءل في كتابك “عشق المسرح”: (لماذا لم يعد الكثيرون يحبون المسرح؟ لماذا هجره العديد من عشاقه؟ هل لأن هؤلاء تغيروا، أم أن المسرح نفسه هو الذي صار مختلفاً عما كان عليه في الماضي؟) هل هذا السؤال ما زال يبحث عن إجابة؟

 

تتداخل في تحديد نوعية الجمهور ومكوناته عوامل مختلفة، ديموغرافية وسوسيولوجية وثقافية وسيكولوجية. ولذلك فهو يُشكل في ثقافات ولدى أمم أخرى موضوعا قائم الذات لأهمية دوره ومركزية عملية التلقي وعنصر المتلقي في إحدى الممارسات الأكثر التصاقا بالجمهور، باعتبار أن أب الفنون أكثر الممارسات الفنية جمعية في مستويات الإنتاج والأداء والتلقي. وما لم نهتم ونوفر دراسات سوسيولوجية وسيكولوجية وثقافية وحتى ديموغرافية للجمهور، ولصيرورة وعملية التلقي، فسيظل السؤال قائما بل ومعلقا إلى حين !

 

تشهد جميع ربوع المغرب مجموعة من التظاهرات والمهرجانات المسرحية، وتُخصص لها المسابقات والجوائز والندوات. هل في رأيك هذه الفعاليات قامت بدورها في تعزيز مكانة المسرح المغربي في حياتنا الثقافية أو أسهمت في تطويره؟

 

أنا مقتنع بأن المهرجانات المسرحية الجادة وذات الرؤى الهادفة والمُواطِنة هي آليات للتنوير ومحاربة الجهل والعدمية والظلامية. كما أنها تُساهم في خلق حساسية جمعية لترسيخ قيم الثقافة والفن والخير والجمال… لكن هذا يستدعي، واستنادا إلى ما سبق، عدم خلط الأوراق والحابل بالنابل، ووضع كل المهرجانات والملتقيات الفنية في سلة واحدة، سواء من حيث الجودة أو الغاية أو الهدف… فهناك عدد من اللقاءات والمهرجانات غايتها الربح والريع، و”المهرجانجية” في أحسن الأحوال!…

 

 

أثارت مسألة الدعم للأعمال المسرحية لغطا كبيرا، هل من سبيل لتطوير آلية أخرى كفيلة بتعزيز الإنتاج المسرحي المغربي وترويجه على مدى أوسع، تسمح له أن يصبح في النهاية كائنا مستقلا على مستوى الانتاج والعرض؟

 

باختصار شديد، يظهر أن مسألة الدعم بكل الصيغ التي اتخذتها قد أدت أكلها –الأكل هنا بأكثر من معنى !- وأنها بلغت نهاية المدى الذي جاءت من أجله، وأنه آن الأوان لإعادة النظر جذريا في هذه الصيغة وفي “السياسة” التي تكمن خلفها، بعد أن حققت –أو ربما لم تُحقق- كل غاياتها، وهذه التجربة هي اليوم في غرفة الانتظار، بل في حالة احتضار ! ويظهر أن عددا غير قليل من الممارسين المسرحيين أنفسهم على اقتناع بذلك !

 

  • ألححتَ في كتابك “المسرح ووعود الحرية” على ضرورة حفظ الذاكرة والحق في الأرشيف بالنسبة للمسرح المغربي. كيف نحل هذه المشكلة العويصة المتعددة الجوانب على مستوى التوثيق من نصوص وصور…؟

مرة أخرى، الذاكرة –بدلالتها المركبة- مخادعة ومخاتلة، انتقائية ونرجسية، كما أنها جماعية وأنطولوجية بالمعنى الفلسفي للعبارة، ولذلك لا يمكن أن تُعاد إنتاجها وبناؤها إلا بشكل جماعي وداخل تجمعات علمية نزيهة ومشهود لها بالكفاءة والجدارة. وما أشرت إليه بخصوص كتابي الاخير، وضعته عمدا تحت عنوان فرعي “شذرات”، بكل ما تعنيه العبارة من اختزال واختصار ونسبية، بعيدا عن كل ادعاء. الذاكرة تستلزم الموضوعية والنزاهة والتجرد جهد المستطاع.

 

 

هل هذا العصر الرقمي الذي نحن الآن في قلبه، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي ستضيف إلى المسرح المغربي تحديات أخرى لا قِبَل له بها من قبل؟

 

تماما، ولذلك وجب أخذ الأمر بكثير من الجدية والتهيب وعدم الاستخفاف وكثير من التواضع. وهذا ما لا يظهر للأسف الشديد في أفق عروضنا وأعمالنا المسرحية المتهافتة في بعض نماذجها، ولا أقول جميعها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى