فلسفة الأصحاب والأصدقاء.. ووحدة الرسالات
بقلم: خالص جلبي
(28) فلسفة الصحبة والمعارف واللقاء بأخلاط الناس والانطباعات عنهم
حديث مستريح ومستراح منه
حينما يتحدث المؤرخ (ويل ديورانت) عن إيفان الرهيب، يعقب فيقول: ثمة كائنات ليتها لم تظهر في التاريخ. وفي متحف الشمع لمدام توسو، تطالعك قامات تذكر بأشقى القوم مثل هتلر. السيدة التي عملت المتحف، وزرته أنا شخصيا في لندن، فخلدت شخصيات تاريخية ليست بأفضل ما أنتجه الجنس البشري. وحين وضع مايكل هاردت كتابه عن المائة الأعظم، بدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه ذكر رهطا من الجبارين، لأنه رأى أن الأخيار تركوا بصماتهم، وأن الأشرار أيضا مسخوا التاريخ، ولكن الناس تذكرهم وهم يفرقون. والبراميلي في سوريا تسبب في قتل مليون، وتهجير نصف الشعب السوري، بعد أن هدم أبوه مدينة حماة على رؤوس أهلها. وحين أطالع القصص الثلاث في سورة «الكهف»، «ثقب السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح جدار يريد أن يَنْقَضَّ»، أزداد صعوبة في الاستيعاب بالتدريج. القصة الأولى واضحة خلاف الثانية والثالثة، فأفهم من الأولى جدوى ثقب السفينة، لأن كل سفينة كانت تؤخذ من حاكم ظالم غصبا. وعليه ومن قصة ثقب السفينة، فهم الأصوليون أن الضرر الأصغر يرتكب من أجل دفع ضرر أعظم، أما قصة قتل الغلام فهي تدخل تحت سياق مستريح منه، والتاريخ ينقل لنا قصة قوبلاي خان الذي صادر 3400 سفينة، يعلوها 140 ألف مقاتل لغزو اليابان، فلم تشبعه الصين على اتساعها، فهلك الأسطول ولم يعقب، وكان ذلك نهاية المغول. وهذا يقول إن الأرض لا تتسع لملكين، ولكن حصيرة تتسع لعشرة من الدراويش، وتلك الدار الآخرة هي من نصيب الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا. وحفرة في الأرض اتسعت لجنكيز خان، الذي حلم بالخلود فلم يملأ فاهه إلا التراب. وبقدر ما قتل «بول بوت»، بقدر ما كان مصيره مثل أي مصير فلاح تعيس، كما قال تولستوي وهو يموت في محطة نائية، هاربا من زوجته، وكذلك كان الحال مع أتيلا وستالين وصدام والأسد وصالح وبن علي، الذي هرّبت زوجته طنين من الذهب في لحظة الهروب الأعظم، والذي آوى إلى السعودية، فلحق بعيدي أمين. أنا شخصيا مر علي أصناف وأخلاط من البشر، وقليل منهم صالحون وكثير منهم فاسقون. ومنهم من لا أتمنى في حياتي ان أراهم في أي مكان ولو بالصدفة، ومنهم من أدعو لهم بظهر الغيب كلما جاء ذكرهم، وهو ما يذكرني بحديث المصطفى (ص) عن أصناف الناس. وبالمناسبة هناك حديث أيضا يتحدث عن معادن الناس، أنهم مثل معادن الذهب والفضة، فأيهم كان جيدا في الجاهلية، سيكون نافعا للإسلام. وكان رسول الرحمة (ص) يتمنى أن يسلم أبو جهل، عفوا أبو الحكم عمر بن هشام، ولكن عمر بن الخطاب من نال الجائزة، فسجل اسمه في الخالدين، حتى في منصة مايكل هاردت فقد أعطاه رقما.
(عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، أنه كان يُحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال: «مستريح ومستراح منه».
قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟
قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب). (صحيح البخاري).
(29) وحدة الرسالات
عن حديث أبى هريرة رضي الله عنه، أن النبى – صلى الله عليه وسلم – قال:
(أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد). متفق عليه. فإلى الكلام عن أخوة الأنبياء، ووحدة الدين، وتعدد الأمهات، ودلالات كل ذلك:
الأنبياء إخوة
قال النبي – صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوة لعلات»، وفي رواية أخرى صحيحة: «أبناء علات»، وهذا التعبير قد يكون غريبا عن مسامعنا نتيجة للعُجمة التي أصابتنا في العصور المتأخرة، فإذا رجعنا إلى كلام الحافظ بن حجر وجدناه يقول: «الأنبياء إخوة لعلات، والعلات بفتح المهملة: الضرائر، وأصله أن من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه عَل منها، والعَلَل: الشرب بعد الشرب، وأولاد العلات: الإخوة من الأب». إذن فالقصد تشبيه الأنبياء عليهم السلام بالوالد الذي تزوج عدة نساء فأنجبن أولادا، فالأولاد إخوة من جهة الأب، وهذا تعبير نبوي دقيق لأنه يومئ إلى اشتراك الأنبياء عليهم السلام من جهة، واختلافهم من جهة أخرى، وليس الأمر اتفاقا وافتراقا فحسب، ولكنه اتفاق مبني على أخوة.
وبمراجعة مدخل القرآن من سورة «البقرة» وآخرها، تأكيد على هذا المعنى المتواتر في القرآن الكريم بصور شتى؛ فأما مطلع سورة «البقرة» فنقرأ: «ويؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون». وفي ختام السورة نقرأ: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير». وهناك من يقول إن الإنجيل حرف، وما أوتي عيسى هو شيء آخر. بالتأكيد أن أول إنجيل كتب، ربما بعد نجاة عيسى عليه السلام من الصلب، بفترة ستين عاما، ولكنني أنصح قرائي أن يطلعوا على الأناجيل الأربعة، ليكتشفوا العجب من جهتين. الأولى ليس ثمة فقرة يقول فيها المسيح عن نفسه إنه الله الذي ينبت الزرع والضرع والأجنة في الأرحام، ويدير الأفلاك ويتحكم في النظام الشمسي، فضلا عن الثالوث المقدس، وأحيل القارئ إلى قراءة كتاب «معالم تاريخ الإنسانية»، للكاتب البريطاني «هـ . ج . ويلز»، في الجزء الثالث من كتابه الموسوم بـ«معالم تاريخ الإنسانية»، ليكتشف أن المسيحية التي نعرفها تمت هندستها على يد باول «بولس»، الذي كان من المدرسة الفلسفية من مدرسة الإسكندرية. الرجل كان عدوا للنصرانية، وهناك رواية تقول إنه بالقرب من دمشق تبدى له المسيح وهو يعاتبه، لماذا تحاربني؟ فانقلب؛ ولكن المسيحية انقلبت معه رأسا على عقب. أقول بكل ثقة للقارئ، ليفتح الإنجيل وليقرأه على تؤدة، ليراه مجموعة من التعاليم الأخلاقية البسيطة، وليس ثمة فقرة واحدة يتيمة تقول بألوهية المسيح. كما جاء في سورة «المؤمنون» في آخرها: «بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله، إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون». وهو ما يسميه المناطقة دليل التمانع، في حال وجود أكثر من إله، فإما تم الاتفاق دوما فهما واحد وليس اثنين، وفي حال الاختلاف ستتحقق إرادة واحد وتبطل إرادة الثاني، فيكون عاجزا، والإله ليس عاجزا، وهكذا فليس ثمة إله إلا الله الواحد القهار. أو كما جاء في آية أخرى: «ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن». ومن أعجب ما اجتمعت به في حياتي من قراءات، أن رجلا من النصارى قال إن الله نص في كتابه على بنوة عيسى لله، من الآية في آخر سورة «الزخرف»: «قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين». والعبارة كما وردت هي للاستنكار المقلوب، أي لا يمكن أن يكون هذا، ولو كان من عند غير الله، لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وكبيرا. أو صديقي الطبيب النصراني «ميلاد بحده» من مدينتي القامشلي، قال: في حال وجود أكثر من إله، فهذا أفضل فهي ديموقراطية إلهية. وبالطبع فقد جاء في الأساطير اليونانية، أن مجمع الإلهة كان يضم أكثر من 300 مثل بوسايدن، إله متخصص في السيطرة على عالم البحار، وآخر للأرض، صارعه هرقل فكان يفشل في كل مرة يغلبه هرقل، فيقع على الأرض، فيستعيد قوته وهكذا. وهذا يقول إن الديانات والأفكار قوى مبرمجة للطفل من ولادته، وهو ما جاء في حديث سوف نتعرض له عن دين الفطرة، بأن الطفل يولد بريئا، ليتحول كافرا أو مؤمنا، أو من دين عجيب نسميه عجيبا، وهو عندهم عادي.
(30) فهلا شققت عن قلبه
الاكتفاء بظاهر القول
هذه فلسفة مهمة جدا أن نقبل من الناس الظاهر، أما ما في القلوب فيترك لرب القلوب. وفي سورة «الحجرات» كلام واضح، أن الأعراب لم يؤمنوا في قلوبهم، ولكنهم دخلوا الإسلام السياسي، أي انضبطوا تحت النظام العام. وهذا يدخلنا أيضا لفهم معركة الردة، فالكثير يظن أن أبا بكر رضي الله عنه حاربهم لأنهم كفروا، بل حاربهم للعصيان المسلح على الدولة المركزية، كما لو امتنع أناس في مدينة ما عن دفع الفواتير، ثم حملوا السلاح في وجه السعاة، وأخيرا في وجه القوات المسلحة، فهذا ما حصل في معارك الردة. يظهر هذا واضحا في قول الصديق: لو كانوا يؤدون لرسول الله عقال بعير وامتنعوا لقاتلتهم. والحديث الموجود بين أيدينا يسلط الضوء على هذه المشكلة العويصة.
«بعثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، إلى الحُرقاتِ، فنَذروا بنا فَهَربوا، فأدرَكْنا رجلا فلما غشيناهُ قالَ: لا إلَهَ إلا اللهُ، فضَربناهُ حتى قتلناهُ، فذَكَرتُهُ للنبي صلى اللهُ عليه وسلم فقالَ: من لَكَ بلا إله إلا الله يومَ القيامةِ، فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنما قالَها مَخافة السلاح. قالَ: أفلا شقَقتَ عن قلبِهِ، حتى تعلمَ مِن أجلِ ذلِكَ قالَها أم لا؟ مَن لَكَ بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ قالَ: فما زال يقولُها حتى وَدِدْتُ أني لم أُسلِم إلا يومئذ». (متفق عليه).
نافذة:
ليس ثمة فقرة يقول فيها المسيح عن نفسه إنه الله الذي ينبت الزرع والضرع والأجنة في الأرحام ويدير الأفلاك ويتحكم في النظام الشمسي