الحداثة وواقع العالم الإسلامي
خالص جلبي
أرَّخ (ابن خلدون) في مقدمته لنهاية الحضارة الإسلامية بقوله: «وكأن لسان الكون نادى بالخمول فاستجاب والله وارث الأرض ومن عليها».
وحسب (جون آرنولد توينبي)، المؤرخ البريطاني في كتابه (مختصر دراسة التاريخ)، إن الحضارات تتعرض للفناء والاندثار، مثلها مثل الأفراد والتنظيمات والدول، فليس من أحد محصن ضد الزوال، والبقاء لله العلي الكبير المتعال، فكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
ويصل توينبي في إحصائياته إلى 600 مجتمع بدائي انبثقت منها 32 حضارة اندثر معظمها، ولم يراهن على ديمومة الحضارة الإسلامية بقدر بقاء الغربية، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
وهو أمر اختلف معه (أوسفالد شبنغلر Oswald Spengler)، الفيلسوف والمؤرخ الألماني، أن كل حضارة كيان قائم بذاته، متفرد غير قابل للتكرار.
وأن الحضارة ظاهرة متفردة، تتخشب وتتيبس مفاصلها، مثل أي نبات ثم تكون هشيما تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا. والمهم في تحليل شبنغلر أنه وقَّت لنهاية الحضارة الغربية، بعنوان صارخ (أفول الغرب Der Untergang des Abendlandes)، وهو موت لا راد له، ولن يحدث في عقود، بل على امتداد القرون القادمة، ولعل أهم مؤشرات ذلك الموت هو (المرض الاستعماري الوبيل) و(التمدد الإمبراطوري المفرط)، على حد تعبير المؤرخ الأمريكي (باول كينيدي)، وهو يماثل ظاهرة الصدمة في البيولوجيا، حين يضيع الدم في المحيط؛ فيعالج الجسم الظاهرة باحتقان الدم مركزيا، للمحافظة على وظائف الأعضاء الحيوية من دماغ وقلب وكبد وكلى، مقابل دخول الفرد حالة الغيبوية والسقوط.
ذكر هذا الشيء وهو يدرس انهيار القوى العظمى على امتداد القرون الخمسة الفارطة، في كتابه الموسوم (صعود وسقوط القوى العظمى).
وحسب (كارنو دي ساد)، فإن القانون الثاني في التيرموديناميك لا يبقى على علاقة في الكون ولا يذر، ومصير الجميع إلى نهاية وفناء.
وينطبق هذا على كل أنواع التراكيب، سواء في إسمنت البناية فتتشقق، أو المركب الكيماوي فيتحلل، أو التراكيب العضوية فتفسد، أو الدول فتختفي من خارطة الوجود، أو اللغات فتنقرض، أو الحضارات فتنهار، ويكون لسقوطها دوي عظيم، حسب تعبير الإنجيل. وحسب (ويل ديورانت)، صاحب سفر (قصة الحضارة)، فإن الحضارة نسيج اجتماعي معقد من الاقتصاد والثقافة والدين، صعب بناؤه، سهل تمزيقه والانسحاب منها في عودة إلى البربرية، بسرعة أكبر جدا من الدخول فيها وبنائها.
وتمتاز الحضارة أنها نتاج تعلم كل جيل، فإذا توقف أو امتنع أو حيل بين الجيل وبين تعلمها، لم تبق حضارة، بل همج بدائيون يتطاحنون بالحجارة والعصي.
رأينا في مذابح دجلة والبوسنة وغروزني وسوريا واليمن وليبيا ورواندا وبرلين في الحرب الكونية، حين مات حول برلين ثلاثة ملايين من العساكر المقرودين.
ويعتبر القرآن أن المجتمعات تموت كما يموت الأفراد؛ فجاء في محكم التنزيل، وفي أكثر من موضع الحديث عن موت الأمم، وهو هنا غير موت الأفراد تأمل الآية: «لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون».
وهذا اللون من الموت يختلف عن موت الأفراد، الذي وصفه القرآن بتعبير مختلف؛ «كل نفس ذائقة الموت»، أو بتعبير «وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنتَ منه تحيد».
فالحديث هنا هو مواجهة الفرد حالة الفناء الذاتي، أما موت الأمم فهو حالة مدهشة، لا يستطيع أحدنا الزعم أنه رأى مشهدا مثيرا من هذا الحجم؛ فيقول: والله كنت البارحة في جنازة الأمة (الصربية أو المصرية أو العراقية أو السورية والأفغانية والصومالية)!
في حين أنه ليس من أحد منا، إلا ورأى تلك الحالة الفريدة من موت أفراد من البشر، سواء كانوا أقرباء عزيزين، أو غرباء بعيدين، فيأسى مع الأول، ويدهش مع الثاني أو لا يهتم، حسب النشاط الذهني واليقظة الروحية. وكفى بالموت واعظا.
لذا لا يمكن الحديث عن شيء اسمه الحداثة الإسلامية، إذا كانت هذه الأمة في حالة غيبوبة، أو عدم حضور، وبتعبير القرآن (الشهادة) وهو خلاف ما اعتاد المسلمون ترديده عن الشهادة أنها تعنى القتل، فضلا عن الموت!. فهل الأمة الإسلامية في حالة احتضار أو موت أو بقايا عظام نخرة؟ قالوا تلك إذن كرة خاسرة..
والسؤال الذي يفرض نفسه أين موقع الأمة في الوقت الراهن، فمن الأهمية بمكان تشخيص وضع الأمة حتى يدرك الأفراد أين هم ماضون؟
وكما يسم الموت الفرد بمظاهر لا يخطئ فيها أي مبصر، كذلك كانت الحالة، مع موت الأمم واضمحلال المجتمعات وانهيار الحضارات.
ويرشدنا علم البيولوجيا إلى أمرين واضحين في موت الأفراد؛ الأول في توقف الوظيفة؛ فنعرف أن صاحبها فارق الحياة، فلا ترتفع يد، ولا يرمش جفن، ولا تختلج عضلة.
والثاني في تحلل الشكل، وتناثر الأجزاء، وبذلك يبدأ الموت مع توقف النشاط المميز الذي يسم الكائن، لينتهي بتفكك روابط أجزاء ذلك الكائن، ما جعلت من الكائن كائنا يحمل اسما خاصا به. وتظهر الوظيفة على نحو مميز بترابط الأجزاء ووحدة العضوية.
كذلك الحال في هشيم النبات، وتحلل الخلية، وموت العقرب والفيل، واضمحلال المجتمع، وفَناء الحضارات في فِناء الزمن.
ومن أطرف الأمور تلك العلاقة المقلوبة بين دقة الوظيفة وتفاهة العطب، تكفي جلطة لموت إنسان بانسداد شرياني، وانقطاع الأكسجين لمدة خمس دقائق في احتراق الدماغ، وفيروس تافه لإنهاء حياة فيلسوف، وطلقة سخيفة أن تنهي حياة رجل عظيم مثل غاندي ومالكوم إكس ومارتن لوثر كينغ.
فهل نحن أمة ميتة وجثة ملقاة على شاطئ الزمن كما رأينا جثة الطفل الكردي إيلان، أم أمة عظيمة قدوة للغادي والرائح؟ خير أمة أخرجت للناس، كما جاء في القرآن، أم أنه وصف لأمة مضى وقتها والتهمها التاريخ في أحشائها ورماها من المخلفات، كما وصف ذلك مالك بن نبي في إطلاق وصف أو تعبير (إنسان ما بعد الموحدين)، أو الذي وصفه الجابري وهو يقوم بتشريح بنية العقل العربي، أنه ميت منذ أيام الغزالي في القرن الخامس الهجري!