خالص جلبي
في عام 1925 وضع هايزنبرغ المعادلات الرياضية التي تحكم عالم الذرة السفلي، ليضع لاحقا «إيرفين شرودنجر» معادلته التي تفسر الضوء على شكلين جزئيات وأمواج، ولكنه اعترض بطريقة ساخرة على مفهوم الاحتمال بقصة «القطة الحية الميتة» المحبوسة في حيز، والمعزولة عن العالم، والمهددة بانكسار زجاجة سم، من مطرقة مربوطة بتحلل ذرات يمكن أن تتحلل ويمكن أن لا تتحلل. فمع قانون اللايقين لهايزنبرغ القطة ميتة وحية بالوقت نفسه، فهل يعقل هذا؟
ولكن المسألة كما يقول «نديم الجسر» في كتابه «قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن»، أن نفرق بين «التعقل» و«التصور» وهذا الذي حدث مع تلك الليلة الخالدة لهايزنبرغ؛ فالرجل اشتعل دماغه لفهم القوانين السفلية التي تحكم عالم الذرة، ولكن المعادلات الرياضية قادته إلى أغرب التصورات، وهي نقض كامل لكل الفكر الفلسفي المعروف، فبدأت الصدفة تلعب دورها في العالم، وانتهى الواقع الموضوعي فلم يعد وجود للحقيقة المطلقة، ولم يعد المراقب صاحب الدور المحوري، وهو الشيء الذي انتهى إلى وصفه بشكل جميل «روبرت آغروس» و«جورج ستانسيو» في كتابهما «قصة العلم» الذي ترجم إلى اللغة العربية في سلسلة «عالم المعرفة»، بعنوان «العلم في منظوره الجديد»، أن الفيزياء القديمة انتهت وأن مفاهيم مثل «الزمن المطلق» و«المكان المطلق» و«حيادية المراقب» للتجربة أصبحت من مخلفات الماضي، فأي مراقب يدخل إلى أي تجربة يحدث من التأثير ما يغير نتائج التجربة، وبذلك انتهت الحيادية والموضوعية «Objectivity» واليقين، ومثل أن الشيء يمكن أن يكون في مكانين في الوقت نفسه، وهي الفكرة التي ينادي بها «ديفيد دويتش David Deutsch» البريطاني من «أوكسفورد» عن عوالم موازية لا نهائية «Multiversum» تخضع للقوانين نفسها التي نعيشها، ويبرهن عليها بغرابة سلوك الضوء حين نسلطه من ثقبين، ثم نقرب بينهما ليتحولا من بقع إلى موجات متكسرة، وحسب نظريته فيمكن للديناصورات في عالم آخر أن تتابع حياتها بدون انقراض من ضربة مذنب، وكان أول من تقدم عام 1985م بفكرة كمبيوتر الكوانتوم، حيث يستبدل شرائح السيلسيوم بالذرات التي تشبه العوالم الموازية اللانهائية، ويمكن بواسطتها إجراء عمليات حسابية من «تعشيق» خمسين ذرة ما هو أكثر من كل جزيئات الكون التي تبلغ عشر قوة 83، التي سوف تقودنا في المستقبل إلى إنتاج الحاسوب الأعظم، وفكرته حول العوالم هي الفكرة نفسها التي قالها العالم الياباني «آو أي» في تفسيره لحوادث مثلث الموت في جنوب بحر اليابان الذي يبتلع السفن باستمرار، وهو موازي لنفس خط عرض مثلث برمودا في الأطلسي. من أنها تنتقل من عالم إلى عالم، كما في انتقال الصورة إلى موجات كهرطيسية.
وهذه النتائج الفلسفية في عالم الكوانتوم هدمت الفكر الفلسفي القديم برمته، وفتحت الطريق لكل الإنجازات الإلكترونية الحديثة، ومن هنا تأتي أهميته، ففي عام 1947م استطاع اثنان من مهندسي شركة «بيل Bell» في أمريكا استنادا إلى مفاهيم الكوانتوم أن يلحما أول ترانزستور، ومنه تم اختراع كل الآلة المعاصرة في المصانع والأسلحة والاستخدامات الميدانية، من الطيران حتى الغسالة والكمبيوتر، فكلها في داخلها شرائح كمبيوترية هي الدماغ الكوانتي الجديد.
والقليل من يدرك أو تابع تطور الكمبيوتر؛ ففي عام 1971م ولد أول كمبيوتر في أحشائه 2300 ترانزستور وكان يومها الفتح المبين، ولكن كمبيوتر (البنتيوم 4 Pentium) من عام 2000م مقارنة بكمبيوتر «إنتيل Intel» يومها يضم 42 مليون ترانزستور! وتبلغ مساحة الرقيقة الكمبيوترية 0,18 ميكرومتر مقارنة بعام 1971م 10 ميكرومترات، أي أن الكمبيوتر زادت طاقته حوالي ألفي مرة، وانخفضت مساحة رقائقه مائة مرة، وهذه الأرقام وصلت عام 2020م إلى الحاجز الفيزيائي الذي سوف تنكسر عنده العتبة، كما حدث مع عتبة البوسفور بارتفاع مستوى مياه بحر مرمرة مع ذوبان عصر الجليد قبل 7500 سنة فحدث طوفان نوح، حيث سيحوي الكمبيوتر، حسب قانون «مور Moore»، الذي وضعه «جوردون مور» عام 1965 م، أن الترانزستورات تتضاعف قوتها كل 18 شهرا، وهذا سيوصلها إلى الحافة التي تعجز فيها عن المتابعة لولادة كمبيوترات نوعية جديدة، تشبه الانتقال من عصر النار إلى عصر الطاقة النووية، باستخدام الطاقة الكمومية العجيبة في الذرات، التي تنطلق فيها الطاقة إلى ما لم يخطر على قلب بشر، واجتماع ألف ذرة في الكمبيوتر الكوانتي سوف يفوق بطاقته ما تعجز عنه كل كمبيوترات العالم مجتمعة. وهي تذكر بقصة الحكيم والسلطان، فبعد أن عالجه من مرض عضال قال له الملك: أريد أن أكافئك، فاطلب؟ قال: هو أمر بسيط. انظر إلى لوحة الشطرنج، وطلبي حبة قمح في الخانة الأولى تضاعف مع كل خانة 48 مرة. أمر الملك بصرف حبوب القمح له، ولكن الخازن هرع إلى الملك ليقول إن حبوب العالم كله لن تكفيه يا مولاي.
وذرات الكمبيوتر الكوانتي ستفعل الشيء نفسه في الأعوام المقبلة.
نافذة:
استطاع اثنان من مهندسي شركة «بيل Bell» في أمريكا استنادا إلى مفاهيم الكوانتوم أن يلحما أول ترانزستور ومنه تم اختراع كل الآلة المعاصرة في المصانع والأسلحة والاستخدامات الميدانية