خالص جلبي
المواطن العربي اليوم يستعمل الموبايل ويضع على عينيه نظارة أنيقة. والجراح العربي يجري جراحات معقدة بالمنظار ويركب شرايين صناعية. والجندي العربي يقاتل بالصواريخ، وحول الكرة الأرضية سبحت مركبات فضائية حملت روادا عربا، مما يوحي بأن العالم العربي بخير، وأن أمامه مسافة قصيرة ليرسل مركبة ترسو على سطح القمر يوربا حول المشتري. ولكن التفحص العميق يظهر أن العافية السطحية تخفي مرضا عضالا يقترب من السرطان. فالخدمات العامة تمشي بالعافية، والمجتمع أصبح شبح مجتمع، يعيش فيه المرء كي لا يعيش، ويحل الفرد مشاكله بالعلاقات الشخصية أكثر من آلة مجتمع متماسك. ومنذ عهد كافور الإخشيدي تحول المجتمع إلى قبيلة من الصيادين تصطاد الفرص، تتناسب فيها الرشوة مع حجم الخدمة، مثل تناسب الصنارة مع حجم السمكة. ولم تعد الخدمات العامة حقا دستوريا للمواطن. ويتعجب المرء كيف تعمل البنية التحتية؟ ومنذ عهد المماليك أتقن المواطن فن الصمت خوفا من المخابرات والخازوق، فلا يفتح فمه إلا عند طبيب الأسنان. ومنذ عهد البويهيين والسلاجقة دشن الفقه شرعية السلطان بالغلبة والعصبية، حتى انطلت الخدعة على ابن خلدون، فاعتبر أن الدول تقوم بقانون العسكر، كبديهية مسلم بها. ومن قبل عاصر الصحابة أنفسهم تجربة مريرة من الحرب الأهلية اختفت فيها حياة الشورى إلى غير رجعة. ولم يحل استعصاء الحكم الجبري إلا الغرب، عندما نجح في توليد آلية نقل السلطة السلمي.
والمجتمع العربي اليوم لا يعيش مرحلة الأمة أو الدولة القومية، بل مرحلة القبيلة تحكمه عائلات إقطاعية مسلحة. وعندما تولد الملكيات من رحم الجمهوريات اليوم، فهي تطور طبيعي وفق هذا القانون الاجتماعي. وكلمة الجمهورية خدعة كبيرة، وتبقى الحقائق أقوى من الشعارات والأسماء.
المواطن العربي كفرد لا ينقصه شيء ويمكن أن يختص في أبحاث الذرة في أمريكا، أو الشيفرة الوراثية في معهد ماكس بلانك في ألمانيا، أو جراحة المناظير في فرنسا، وحالما يوضع في الشرق يكون مصيره مثل نبتة وضعت في تربة سيئة فيضمر الغصن وتجف الأوراق.
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا.
ومنذ أن صادر البيت الأموي الحياة الراشدية، ساد حكم السيف فخرت له الجباه ساجدين. وتحول الحاكم إلى إله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وزعماء العالم العربي أصبحوا مثل شيوخ الطرق الصوفية، يبايعهم الدراويش إلى الأبد. ومتى دخل المريد الحلقة سلم رقبته وعقله للشيخ، وتحرم أي معارضة أو أي تساؤل، فالمريد إذا قال لشيخه لم؟ لا يفلح.
نحن أسرى حلقات الصوفية ولم ندخل العصر بعد، والوعي مغيب في إجازة مفتوحة.
إنه قانون وجودي فالبدن يشيخ ويعتل، والليل يظلم ويعسعس، وينكمش القمر فيصبح كالعرجون القديم. وتمر أوقات عصيبة على الأمم فتختفي من خريطة التاريخ. والأمة العربية اليوم خارج الدورة الحضارية، أشبه بركاب قطار خرج عن سكته وتعرض لحادث مروع، فركابه بين قتيل وجريح وغائب عن الوعي. وتلك الأيام نداولها بين الناس.
مع هذا فمشكلتنا ثقافية قبل أن تكون سياسية، وحجم المشكلات أكبر من الحكومات. وحلها بالانقلابات العسكرية مثل المريض المدنف في العناية المشددة الذي يعالج بإجباره على المشي بقوة السلاح، وما هو ببالغه. نقول هذا ونحن شهود على كارثة جديدة في السودان، حيث يتناطح ثوران عسكريان، تمدهما من الخارج ميليشيات حفتر ومرتزقة فاغنر الروسية، والنفط الحرام، والدم يهرق.
وأكبر خطأ يقع فيه الناس حينما يحدقون في قرارات السياسيين، في الوقت الذي ينتظر السياسي ارتكاس المواطن في حلقة معيبة غير قابلة للانكسار. والمشكلة أن السياسي هو حفيد المثقف المختبئ في الظل. وعندما يضم الوطن مثقفا مدجنا ومواطنا أميا وسياسيا أطرش، فإن الوطن ينقلب إلى مصحة عقلية كبرى.
المجتمع العربي في معظمه مركب خطأ فوق خطأ، ظلمات بعضها فوق بعض، من القاعدة إلى القمة، ومن القيادة السياسية إلى معلم الصف، ومن المؤسسات المزورة إلى وضع المرأة المهين. ولذا فهو يخضع لقانون الفيزياء، حينما توضع المربعات فوق بعضها على نحو غير سليم فقسم ينهار، وقسم يترجرج، أو تهوي به الريح في مكان سحيق.
وما يحدث من الانفجارات المروعة في أفغانستان أو الجزائر أو العراق أو حاليا السودان، ليست أكثر من عينات للمريض العربي نفسه التائه في الزمن التاريخي من المحيط إلى المحيط، والدور جاهز لدولة بعد أخرى.
وهذا يضع تحديا خطيرا لمريض يتخبطه الشيطان من المس، مثلما يفقد الدماغ السيطرة على الأعضاء؛ فكل عضو يتصرف نشازا، مثل انفراط عقد فرقة موسيقية تنتج ألحانا نشازا أقرب إلى حفلة تعذيب في قبو مخابرات.
وبالطبع فإن مواجهة وضع خطير حاد من هذا الشكل لا ينفع فيها الحزن أو جلد الذات أو اليأس؛ بل تفرض مسؤولية من طبيعة خاصة. وهي في علم الاجتماع تتطلب عملا مشتركا في مثلث: من تمليح المجتمع بالأفكار الصحية، وبناء المؤسسات الحيادية، وإنتاج الكم الحرج من الكفاءات البشرية، وهذا له حديث خاص.
نافذة:
الأمة العربية اليوم خارج الدورة الحضارية أشبه بركاب قطار خرج عن سكته وتعرض لحادث مروع فركابه بين قتيل وجريح وغائب عن الوعي