بدأ الإسلام ينتشر في المدينة، وبعد عام التقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكثر من سبعين من الأنصار في بيعة العقبة الثانية، وكان لقاءً عظيمًا بايعهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصرة دين الله ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم بالدم والمال، وكان من بين أولئك المبايعين فتى هادئ صامت لا يتعدى عمره سبعة عشر عامًا، يقول عنه عبد الله بن كعب: كان شابا سمحًا جميلاً، من أفضل شباب قومه.
ويعود معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى المدينة بعد تلك البيعة شديد الحب لهذا الدين، حريصًا على التفقه والتعمق فيه، وما أن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بعد الهجرة وبنى مسجده حتى كان معاذ من أنشط تلاميذه، وكان ملازمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعقل مفكر، وقلب واع يفهم ويحفظ ويتدبر، حريصًا على سماع العلم والفتوى، حتى أصبح من علماء الصحابة في زمن قليل. ومن الطريف أن أخاه من المهاجرين كان كذلك صحابيا محبا للعلم، وصار من علماء الصحابة كذلك، ألا وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فالأرواح جنود مجندة، والطيور على أشكالها تقع.
وقد لمس رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاذ ذلك العقل الراجح، وذلك العلم والفقه، وأن الله قد وفقه للأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «معاذ بن جبل أعلم أمتي بالحلال والحرام». وهذه شهادة له بالأهلية للفتوى، وكذا وثقه رسول الله صلى الله عليه وسلم كإمام من أئمة القراءة والأخذ للقرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول عليه الصلاة والسلام-: «خذوا القرآن عن أربعة: ابن أم عبد -يعني عبد لله بن مسعود ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة». فكان فيمن أشرفوا على جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ومن ثقته به صلوات الله وسلامه عليه وتقديره لمكانته العلمية أن بعثه إلى اليمن قاضيًا ومعلمًا ومفتيًا وحاكمًا وداعيًا إلى الله عز وجل، وزوده عليه الصلاة والسلام بمزيد من فقه الدعوة، ثم بين له ما ينبغي أن يتنزه عنه الحاكم والمعلم والقاضي، فأوصاه بأمور ونهاه عن أمور.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم»، ثم حذره بعد ذلك: «فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم»، ثم حذره وبين له صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يتقيه الحاكم والقاضي، فقال له: «واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».
و قد عمل معاذ رضي الله عنه بوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخلاص وجد، فوفقه الله توفيقًا عظيمًا، وأحبه أهل اليمن حبا شديدًا، وكان رجلاً عالمًا وعاملاً، فكان قدوة حسنة، وقد بارك الله في فترة وجوده باليمن، فدخل أهلها في الإسلام أفواجًا أفواجًا، وعظم ترحيبهم بهذا الدين العظيم.
وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ باليمن يقضي ويحكم بين الناس، وكان صلى الله عليه وسلم يحبه ويقربه إليه ويخصه بأشياء؛ قال معاذ -رضي الله عنه-: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بيدي ثم قال: «يا معاذ: والله إني أحبك»، فقلت له: بأبي أنت وأمي -يا رسول الله-، وأنا والله أحبك. فقال: «أوصيك -يا معاذ-: لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».
و قال معاذ -رضي الله عنه-: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: «يا معاذ: أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟!»، قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا». قلت: يا رسول الله: أفلا أبشر الناس؟! قال: «لا تبشرهم فيتكلوا».
وقد كان معاذ رضي الله عنه كثير العبادة، سباقًا إلى الطاعة؛ عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براق الثنايا، وإذا أناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقالوا: هذا معاذ بن جبل. فلما كان من الغد هجرت -يعني بكرت- إلى المسجد، فوجدته قد سبقني بالتهجير، فوجدته يصلي. قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قِبَل وجهه، فسلمت عليه، وقلت له: والله إني لأحبك لله. قال: فقال: آلله؟! قلت: آلله. قال: آلله؟! قلت: آلله. قال: فأخذ بحبوة ردائي، فجذبني إليه وقال: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله -تبارك وتعالى-: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتباذلين في، والمتزاورين في».
وكان رضي الله عنه سخيا زاهدًا في الدنيا، مؤثرًا على نفسه، بعث إليه عمر بن الخطاب ذات يوم بأربعمائة دينار في صرة مع غلام له، وقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل، وإلزمه في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. وكأن عمر رضي الله عنه توقع تصرفًا فريدًا يليق بمعاذ كعادته. فذهب الغلام بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، واذهبي لفلان بكذا، فطلعت امرأة معاذ فقالت: فأعطنا، ولم يبق معه إلا ديناران فأعطاهما إياها. ورجع غلام عمر فأخبره، فسُر بذلك ودعا له.
ولما حضرته الوفاة قال لمن حوله من أهله: أنظروا أأصبحنا أم لا؟ فقالوا: لا ثم كرر ذلك، وهم يقولون: لا. حتى قيل له أصبحنا فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت مرحبًا، زائر مغب (أي خير) وحبيب جاء على فاقة (حاجة)، اللهم إني قد كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا، وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر (يقصد الصوم)، ومكابدة الساعات (أي قيام الليل)، ومزاحمة العلماء بالركب عن حلق الذكر. ومات معاذ سنة (18هـ) على الأصح وعمره (38) سنة.