فيروس السياسة
رخّصت وزارة الصحة لكافة المستشفيات بالمغرب بالشروع في استخدام عقارين هما “الكلوروكين” و”هيدروكسي كلوروكين” لعلاج المصابين بفيروس كورونا بمختلف جهات المملكة. هذا القرار وقياسا للتعليلات التي دعم بها، خلف نوعا من الاطمئنان لدى عموم المغاربة وهدأ قليلا من روعهم. لكن المتخصصين الذين يتابعون النقاش الذي يقوم به زملاؤهم في كل الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية حول هذين العقارين، يعرفون أكثر من غيرهم أن هناك صراعًا بين خندقين حول استخدام هذا الدواء.
ولكي نفهم جوهر هذا الجدل، فنحن أمام فريقين لكل منهما حجته وأنصاره. فمخبريا وعلميا هذان العقاران معروفان على نطاق واسع، فالـ”كلوروكين” جرى تطويره في أربعينيات القرن العشرين، ويُستخدم في الوقاية وعلاج الملاريا، وكمضادّ للالتهابات مثل التهاب المفاصل. والسبب الأساسي لعدم جواز اتخاذه من دون وصفة طبية أنّ هامشه العلاجي، بين الجرعة المفيدة والجرعة السامّة، ضيّق. أما مزيج الـ”هيدروكسي كلوروكين، فالهامش معه أفضل، وهو على قائمة الأدوية الأساسية لمنظمة الصحة العالمية – سنة 2019.
ومخبريا أيضا لا شيء يؤكد أن هذا الدواء قديم التركيبة يمكنه معالجة فيروس حديث التركيبة. والعينة التي أُجريت عليها الاختبارات في فرنسا، حسب هذا المعسكر هي عينة صغيرة جدا، لا تتجاوز 24 مصابا. ولا يُمكن عبرها استنتاج نتائج مهمة، خاصة أنّ منهجية الدراسة التي يعتمد عليها المنتصرون للدواء ضعيفة. وقد تزعم هذا المعسكر كبار الأطباء المقربين من الإليزيه. فضلا عن أطباء مشهورين في أمريكا وكندا أيضا.
لكن في المقابل، يستند الفريق الذي يدافع عن العقارين على معطيات الواقع، حيث إن نسبة تعافي المرضى الذين تناولوهما مرتفعة جدا، والأمر لا يتعلق بعينة كما يدّعي المعسكر الآخر بل بالآلاف عولجوا في الصين بهذا الدواء في عشرة مستشفيات صينية، ولعلنا نفهم الآن لماذا طالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الصين بـ”المزيد من الشفافية”.
وما جعل الرئيس الأمريكي يدخل على خط الجدل، ويقرر رسميا اعتماد العقارين في المستشفيات الأمريكية، هو قناعته بأن فعالية العقارين هي جزء من الأسرار التي تخفيها الصين، خصوصا وأن فترة التعافي من الإصابة تقلصت من عشرين يوما إلى أسبوع فقط، وهذه النتيجة مسنودة أيضا بتحليلات خضع لها كل المصابين الذين تعافوا بعد تناولهم للدواء.
وإذا اطلعنا على عشرات المداخلات التي قام بها ممثلو المعسكرين في وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية، سنخلص لاستنتاجات كثيرة، ليس أهمها أن الاطمئنان التام بفعالية الدواء هو أمر سابق لأوانه، وأن طريق الخلاص لا يزال بدون ملامح. لكن أهم هذه الاستنتاجات هو أن الشكل الذي اتخذه هذا النقاش بين المعسكرين وانحرافه عن مجال العلم، قوَّى حجة الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة.
فالمعسكر الذي ينتصر لعقار “الكلوروكين” لم يتردد في اتهام إدارة مانويل ماكرون بقتل الفرنسيين، وهذا الاتهام ليس صادرا عن عموم الناس بل من طرف بروفيسورات ذوي وزن علمي مشهود به. ويقود هؤلاء البروفيسور الفرنسي “ديديه راولت” وهو مدير المعهد الاستشفائي الجامعي بمرسيليا، والذي أضحى هذه الأيام نجما إعلاميا حقيقيا، تتناقل اسمه مئات القنوات التلفزية عبر العالم، لكونه أول من تحدى السلطات الصحية الفرنسية في إثبات عدم فعالية الدواء المذكور، ليس فقط في علاج فيروس كورونا بل في علاج أربعة فيروسات أخرى. لكن بالنسبة للمعسكر الآخر، فهذا الطبيب هو “دجّال” يبيع الأوهام، وهذا التعبير لم يصدر كما قلنا من عموم الناس بل من مستشارين للرئيس ماكرون. هؤلاء “فرحوا” وخرجوا يوم أمس للإعلام يفتخرون بصحة رأيهم لكون رجل في أمريكا مات جراء إصابته بكورونا بالرغم من تعاطيه للدواء.
الضغط الإعلامي والسياسي الذي مورس على محيط ماكرون، خصوصا وأن عدد الوفيات في ارتفاع مطرد، وخوفا من الوصول للحالة الإيطالية، حيث تعدى عدد الوفيات 700 في 24 ساعة، جعل الرئيس الفرنسي ينتصر مؤقتا لمعسكر الطبيب راولت، حيث أعلن وزير الصحة الفرنسي “أوليفييه فيران”، قبل يومين، عن أنّ المجلس الأعلى للصحة العامة في البلاد وافق على استخدام “هيدروكسي كلوروكين” لعلاج المرضى “ذوي الحالات الخطيرة في المستشفى إذا وافق الأطباء بشكل جماعي على أنه سيكون مناسبا”. وجرى التشديد على أنّه “لا يجب على الأفراد استخدامه خارج وصفة طبية مُفصّلة”. وهو نفس التعليل الذي قدمته وزارة الصحة عندنا بالمناسبة.
نحن إذن أمام معسكرين، لكل منهما منطوقه و”مسكوته” أيضا. فالداعمون للعقارين يستندان إلى التجربة الصينية لقناعتهم بأن “كلوروكين” و”هيدروكسي كلوروكين” هما سرا نجاح الصين في محاصرة الوباء. والرافضون، وأغلبهم من لوبي باريس العاصمة، يرون أن اعتماد تجربة الصين لفعالية العقارين لا يعتد بها قياسا للبروتوكول الذي يصر الفرنسيون على تطبيقه في التعامل مع الأدوية.
هذا المعسكر يصر على أن 95 في المائة من المصابين يمكنهم التعافي بدون تناول أي دواء، وبالتالي فالمتعافون تعافوا تلقائيا وليس بسبب تدخل العقارين. ليتخذ كما قلنا هذا الرأي شكل اتهام صريح لمعسكر الطبيب “ديديه راولت”، بأنهم يمنحون أملا زائفا، ويساهمون في إفشال سياسة الحجر الصحي ونصائح التباعد الاجتماعي التي توصي بها السلطات، مستدلين بحالات إصابة سجلت في فرنسا، اعترفوا بأن سبب كسرهم أوامر السلطات بالبقاء في منازلهم هو اقتناعهم بالأمل الذي منحهم إياه معسكر الطبيب راولت. لذلك اضطر إيمانويل ماكرون إلى إرضاء الطرفين، إذ بالموازاة مع الترخيص باستعمال العقارين المذكورين، قدّم مشروع قانون أقره البرلمان الفرنسي يخول للحكومة سلطات واسعة لمدة شهرين لمحاربة جائحة فيروس كورونا العالمية. ويستطيع رئيس الوزراء، بهذا القانون، إصدار مراسيم من شأنها أن تقيد تنقلات المواطنين. كما يمكّن هذا القانون السلطات من رفع الغرامة المالية المفروضة من 135 يورو إلى 1500 يورو في حال تم خرق الحجر الصحي مرتين خلال 15 يوما، ثم إلى 3700 بالإضافة إلى السجن في حال تم الخرق أربع مرات في غضون 30 يوما.
ويبقى الثابت في هذه المناقرات العلمية، هو أن كلا الطرفين مضطر للانتظار ثلاثة أسابيع على الأكثر. ستكون حاسمة في ترجيح كفة أحدهما على حساب الآخر. معسكر ينتظر الفشل، وهو المعسكر الرافض للعقارين، وهؤلاء مدعومون من مختبرات أوروبية كبرى تسارع الخطى لإنتاج لقاح خاص وتسويقه، مع ما سيتبع ذلك من أرباح لا يمكن تخيلها. في مقابل معسر ينتظر نجاح العقارين، وخلف هذا المعسكر يوجد جيش من الإعلاميين والسياسيين، الذين سينصبون المقصلة لكل أعضاء إدارة ماكرون بتهمة “قتل الفرنسيين”.
وهذا هو وجه الإحراج في الموضوع، فمن جهة نجد ماكرون يمني النفس بأن يتم التحكم في الوباء لينسب الأمر لنفسه، ويضمن فوزه في الانتخابات المقبلة، ومن جهة هو يعلم بأن نجاح العقارين في علاج الفيروس سيعني الإطاحة بإدارته أو على الأقل بشخصيات مقربة منه.