تأملات امرأة تقاوم الحجر
فيروز فوزي
منذ القرون المظلمة والمرأة تخوض المعارك تلو المعارك، لتدرأ عنها شبهة الخلق من «ضلع أعوج»، ظلت حبيسة الأساطير والمعتقدات المشاعية، والرجعية في ما بعد، ظلت ولقرون مديدة، قيد «حجر» اجتماعي، مفروض بقوة الأعراف أحيانا أو بقوة القوانين والتشريعات الوضعية أحيانا أخرى. إذ طفقت لعنة الحجر تلاحقها حتى مع بوادر الأمل بإطلالة عصر الأنوار وبلوغها سدرة الإشعاع بالعصر الحديث، الأنوار التي تحوم حول قناديلها خفافيش الحقب البائدة، لتظل عالقة بأنماط التفكير وهي تبني أعشاشها في تجاويف الأدمغة المتحجرة، الفكر المؤسس على سيادة الذكور وتبعية الأنثى.
قد يقول قائل، وما صلة «كورونا» بقضايا وشجون المرأة؟ ألم تكن الجائحة رحيمة بسليلات حواء، حين ساوت في الحجر بينها وبين «غريمها» القديم، الرجل؟ أليس البشر سواسية أمام الحجر تماما كأسنان المشط، لا فضل فيه لعربي على أعجمي ولا لذكر على أنثى ولا لأسود على أبيض إلا بمقدار ما يلتزم به الكائن بمحجره؟
طبعا نحس بغير قليل من الغبطة المشوبة بالدهشة إزاء هذا الفتح الديمقراطي الذي حققته كائنات مجهرية، تداهمنا دون بيان معلن. كتائب مجهرية تنقض على خلايانا الهشة، تفرض عبر سطوتها القاهرة «نظاما عالميا جديدا»، كائنات تخلق نوعا من الفوضى الخلاقة فوق هذه الأرض الخراب، التي ظلت لعقود طوال ترزح تحت وطأة النيوليبرالية المتوحشة. لكأن نبيا مجهريا أرسلته الطبيعة في انسجام وتوافق مع مستجدات العصر، نبي جاء بغير كتاب، لمعرفته المسبقة بمعاداة بني آدم للأنبياء والكتب السماوية. فهب كتابا موقوتا، خارجا من الأرض بعدما صففته وأخرجته المختبرات العلمية، نكاية برواد السلام ودعاة التعايش. جاء ليعيد ترتيب العالم ويكبح جماح القوى المتجبرة. ألم تكن قبلنا على هذه الأرض أمم وحضارات، بادت بفعل جبروتها واستخفافها بالأنبياء المرسلين؟ إذ جاء في كتاب الله عز وجل: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ» صدق الله العظيم.
الإحساس الجارف بالرهبة والارتياب من تفشي الأزمنة الرديئة يتعاظم بداخلي خوف مريب. الخوف من تلاشي تلك القناعات التي اعتنقتها، بعد عمل شاق وتفكر مضني في الذات والوجود. لا أتصور عالما يسوده منطق العبثية ويتسيد فيه الحمقى، بلا وازع أخلاقي أو رادع قانوني.
منذ سنوات اخترت جبهتي ورفعت لوائي وأنا ألقي بنفسي في خندق التفكير من أجل الآخر. لقد سلكت لأجله سبلا وعرة محفوفة بالمهالك المحدقة بي من كل جانب. أنا القادمة من غابات الأركان إلى بلاد الصقيع، حيث تندر حمامات الشمس وتنعدم واحات النخيل، أنا الباحثة في دفاتر وكراسات علم الاجتماع، حفيدة عبد الرحمان بن خلدون، أنا المصابة بشغف فهم طبائع الشعوب وعلائقها في السراء والضراء، في السلم كما في الحرب. ألم يكن حريا بي أن اختار مهنة تراعي أنوثتي وقوامي، كأن أفتح محلا للعطور الباريسية، صالونا للحلاقة والتجميل أو أدير وكالة سياحية تبيع الحياة في المصايف والمنتجعات، كان بوسعي أن أنغمس في مجتمع مخملي يمتهن النفاق ويكيد أفراده لبعضهم البعض، كيدا مقيتا؟ لماذا علي أن أقترح حلولا لمشكلات العالم، ممن علقوا في فخاخ هجرة غير محسوبة العواقب؟ لماذا أقايض الشمس بالثلج؟
كان اختيار كندا وجهة لأحلامي، رغبة مني في العيش بالبلاد التي تحتضن موزايكا عرقيا من المهاجرين، الباحثين عن كرامة العيش، منهم من فروا من جحيم الحروب الأهلية ومخالب المجاعة والفقر، ومنهم من وجد بلاد المهجر أقل غربة من الوطن الأم، فآثر الرحيل بغصة في الحلق وأسى لا تندمل جراحه ولو بعد عمر زاهر بالعيش الرغيد. ومنهم بالطبع من يتصور العالم وطنا كبيرا، متعددا يستحق أن ننتمي إليه ونتعايش مع المختلفين عنا فيه. كان ولا زال شغلي الشاغل أن أبني جسورا بين الثقافات بهدم جدران وحواجز اللافهم، المؤدية إلى التوترات الاجتماعية والمفضية إلى الأصولية الثقافية ورفض الآخر. هكذ أحلم وهكذا أفكر في كامل صحوي، بما يعطي معنى لوجودي دونما أدنى ادعاء. أخشى ما أخشاه أن يتحول عمران المدن إلى جحور تتقوقع فيها الأجساد ولا تجد سبيلا للتواصل والتفاعل الحقيقي، نكاية بالفيروسات والمضادات الحيوية.
هكذا نعود إلى كهوفنا، نلوذ بذواتنا، متوهمين أن وسائط التواصل الاجتماعي ستفي بغرض التعايش والتفاعل، نستعيد سيرتنا الأولى كما كان أسلافنا الحجريون.
تعود الأنثى إلى هواجسها السحيقة في القدم، ماذا لو أمسى الحجر سجنا أبديا؟ ماذا لو بعث شهريار وبنات حواء في الحجر؟ ماذا لو ألقى القراصنة العتاة بأمثالي في سان لوران؟ لعلها هواجس في زمن الحجر.