«يوميات طنجة» بول بولز يرسم معالم معيشه
إبراهيم الخطيب
يعكس كتاب «يوميات طنجة 87 – 1989» حياة الكاتب الأمريكي بُول بولز في مدينة البوغاز خلال السنتين المذكورتين، أي عشر سنوات قبل رحيله (1999). يتعلق الأمر بيوميات تصور معيشه اليومي، وعلاقاته وصداقاته، وردود أفعاله ومشاكله مع ناشري إنتاجه، وهواجسه الصحية. لقد حل بول بولز بطنجة، لأول مرة، في مطلع ثلاثينات القرن الماضي. كانت زيارة بولز حينئذ عابرة، لكن مجيئه للإقامة بطنجة إنما حدث في أواسط الأربعينات، قبل أن تلتحق به زوجته جين آور- بولز. تنقل الزوجان بين عدة مساكن في المدينة القديمة (حي أمراح مثلا)، إلى أن استقر بهما المقام على هضبة مرشان.
لقد كانت طنجة، في ذلك الوقت، جذابة وهادئة، ولا يتعدى عدد سكانها 60000 نسمة، غير أنها بعد فقدان صفتها كـ«منطقة دولية» (1960)، عرفت تحولات عميقة أثرت على صورتها القديمة في عيني بُول بولز، وخاصة بعد مغادرة العديد من أصدقائه لها أو وفاتهم ودفنهم بإحدى مقابرها.
شخصيات كل يوم
دوّن الكاتب الأمريكي يومياته المذكورة في حجرة نومه بالطابق الأخير من عمارة «إيتيسا»، وكانت جارته السيدة بافي جونسن، وهي رسامة، تقيم في الطابق السفلي. وكان بُول بولز يعتمد في تدبير معيشه اليومي على كل من محمد المرابط وعبد الواحد بولعيش وعبد الوهاب ورحمة. يتكفل محمد المرابط وعبد الوهاب بالتسوق وإعداد الفطور والغداء والعشاء، وكذا إيقاد المدفأة في أيام الزمهرير. ويعمل عبد الواحد بولعيش سائقا لسيارة بولز، وهي من نوع «فورد موستانغ»، حيث يقوم بنقله إلى مكتب البريد أو القنصلية الفرنسية وأحيانا إلى المستشفى، فضلا عن نقله للقيام بجولاته على الشاطئ. أما رحمة فتقوم بنظافة الشقة. وإذا كان بولز لا يبدي أية ملاحظات على سلوك بولعيش عدا كثرة «حكاياته المليئة بالكنوز»، فإنه كان ينزعج من حدة مزاج المرابط، وعنف خصامه وبذاءة سبابه. في مقابل ذلك، كان يكنّ ودا بيّنا لعبد الوهاب إلى درجة أنه تأثر لذهابه للإقامة بصفة دائمة في هولندا.
لم يكن بولز يتردد في مغادرة شقته بين حين وآخر لترويض ساقيه عن طريق المشي على كورنيش مرقالة مصحوبا في غالب الأحيان بسائقه. كان يعاني من تصلب في ربلة الساق، كما كان يعاني من فتق، ومن انحباس الصوت أحيانا، فكانت جارته بافي جونسن تنصحه بإجراء فحوص بالأشعة السينية على الحنجرة. وعندما أجريت له عملية على العصب الوُدّي، نصحه الطبيب بالمكوث في الفراش وعدم الحركة مدة من الزمن، وخلال ذلك كان بولز يتناول طعامه مندسا في فراشه، إلى أن نبهه عبد الواحد بولعيش إلى أن التعود على هذا الوضع ليس صحيا بالنسبة له. وكان الكاتب يعتقد أن تقلبات الطقس مزعجة لصحته، كما كان يبدي استياء من التغيرات التي عرفتها طنجة على الصعيدين العمراني والبيئي، ومن بيروقراطية بعض المؤسسات (البريد مثلا) التي كانت وسيلته الوحيدة للاتصال بالخارج. مع ذلك كان بول بولز حريصا على البقاء في طنجة، متهيبا من مغادرتها، بل كان يحاول التهرب قدر المستطاع من بعض الأسفار، متعللا بعدم رغبته في ركوب الطائرة.
زوار لا ينقطعون
كان الكاتب حريصا أيضا على عدم إغلاق باب شقته المتواضعة في وجه زواره الكثيرين. لم يكن يملك هاتفا ثابتا، لذا كان يفتح الباب لكل الطارقين سواء كانوا فضوليين عابرين غايتهم التعرف عليه، أو صحفيين يريدون إجراء حوارات معه، أو باحثين يعدون أطروحات عن أدبه، أو كتاب سير تتناول حياته، أو فرقا تلفزية قدمت لتصوير أفلام وثائقية عنه. لقد استقبل في هذا الصدد فرقا قادمة من عديد الدول الأوروبية ومن أمريكا. ورغم انزعاجه من بعض مطالبها، إلا أنه كان ينصاع في النهاية لها مع ما يكلفه ذلك من مشقة التنقل خارج البيت، وفي أوقات قد لا يستسيغها أحيانا. والملاحظ أن بولز كان يسر بزيارة كتاب أو موسيقيين له في شقته، مثل رودريغو راي روسا أو باتريسيا هايسميث، بحيث يكون مزاجه رائقا، لكن مزاجه كان معتكرا تماما طيلة الأيام التي استقبل فيها الكاتب الأمريكي كريستوفر- ساوير- لاوسانّو الذي كان يعد سيرة له يناقض تصورُه لبعض مراحلها ما يتصوره بولز عن نفسه أو ما يرفض أن يطلع الناس عليه من تصرفاته. كان مسرورا أيضا لزيارة (ميك جاغر) من فرقة (الرولينغ سطونز) له أثناء قدوم هذا الأخير لطنجة بمعية فريق (BBC) قصد تصوير حفل موسيقي مع فرقة (جهجوكة)، وكذا لزيارة صديقيه فيليب رامي وكريزي كيت اللذين كانا قد عادا من أمريكا حاملين هدايا له عبارة عن تسجيلات جديدة لبعض ألحانه القديمة. استقبل بولز أيضا ناشرين يابانيين، وباحثين مغربيين من جامعة ليموج في فرنسا، كما استقبل المخرج محمد ولاد محاند الذي جاء لتصوير فيلم وثائقي عنه عرض في ما بعد على قناة (Arte) الفرنسية- الألمانية.
عزلة واندماج
ورغم ميله إلى العزلة، إلا أن بُول بولز كان مندمجا إلى حد ما في مجتمع طنجة من خلال علاقاته الحميمية بمساعديه الذين كانوا يوجهون إليه الدعوة لحضور بعض احتفالاتهم، مثلما حدث مع محمد المرابط الذي كان يقيم في بيته، كل سنة، حفلا بمناسبة عيد ميلاد بولز، أو ما حدث مع عبد الوهاب الذي دعاه لحضور حفل زفافه، وكذا من خلال حرصه على حضور الحفلات الموسيقية أو مشاهدة الرقص الشعبي في الشارع العام. كانت لبولز أيضا علاقة ببعض النابهين في المدينة مثل لالة فاطمة الزهراء، كريمة السلطان مولاي عبد العزيز، أو ابنة أحد أمراء الكويت من عائلة الصباح التي دعته لحضور حفل أقامته في قصر لها يطل من مرتفع على المحيط الأطلسي وأهدته خلال ذلك سلهاما من وبر الإبل. وكان يلبي دعوة بعض أصدقائه الأجانب المقيمين بصورة دائمة أو جزئية في طنجة وذلك لقضاء أمسيات نقاش مهنية معهم أو لحضور حفلات عشاء في بعض المطاعم حيث يواظب على طلب شريحة لحم العجل أو يكتفي بعجة بيض باردة.
بقي أن نشير إلى أن «يوميات طنجة» لا تخلو مع ذلك من ملاحظات مدارها بعض سلوكات المغاربة أو تصرفات السلطات المحلية. هكذا لاحظ بول بولز بغيظ أن دهاقنة العقار أطلقوا بولدوزيراتهم في بادية طنجة حيث تم تدمير النباتات وقطع الأشجار، وأن سكان الفيلات التي شيدت حديثا هناك يرمون قمامتهم في الخلاء دون أي احترام للبيئة. لاحظ أيضا أن العداء بين الجنسين يبدأ منذ الصغر، وذلك عندما شاهد في الشارع صبيانا يقذفون بالحصى موكبا نسائيا يعبر عن فرحته بالنقر على الدفوف. وبخصوص شهر رمضان انزعج بولز من حذف السلطات معزوفات «الغيطة» في الصوامع، وتعويض ضربة المدفع المؤذنة بانتهاء يوم الصيام بصفارة إنذار؛ كما انزعج من بعض السلوكات التي تصدر عن الصائمين والتي تتراوح بين العنف اللفظي والقتل العمد.
تلك هي بإيجاز بعض ملامح معيش بُول بولز في طنجة إبان السنتين اللتين روى وقائعهما في يومياته. لقد بدا لي من خلال ذلك رجلا منفتحا بحيث لم يكن يتردد في استقبال من شاء، رغم إدراكه أن ذلك يقتنص من وجوده وعمله وقتا ثمينا، كما كان متهيبا من حدوث تغيرات في مجرى أيامه، حريصا مع ذلك على التلاؤم معها أو الاستسلام لها بمزاج زاهد. كان الكاتب أيضا مهتما بمسألة ترجمة أعماله إلى اللغتين الفرنسية والإسبانية، منزعجا من بعض الترجمات التي لا تروقه، كما كان مهتما باحتمال تصوير فيلم مقتبس عن أحد أعماله الأدبية. لكن ما يثير الانتباه هو أنه، طيلة السنتين، لم يتحدث قط عن انشغاله بالكتابة ما عدا مرتين: وعد في إحداهما صديقا له بوضع مقدمة لأحد كتبه وقد فعل؛ وتساءل في الثانية عما إذا كان سيلبي رغبة دانييل روندو في الكتابة عن ذكرياته في حي «كي فولتير» بباريس إبان سنتي 1931 و1932، وقد فعل. ما يثير الانتباه أيضا هو أن بولز لم يتحدث في يومياته بتاتا عن محمد شكري، وهو ما يعني أن هذا الأخير لم يكن يقوم بزيارته بسبب استفحال خصامهما، أو أنهما ربما لم يلتقيا في أي مكان.