يوميات رحلة الحسن الثاني إلى نواذيبو لاستعادة الصحراء
جمعها مؤرخ المملكة بن منصور واختلى فيها الملك بهواري بومدين
في ليل نواذيبو الذي لا يشبهه ليل آخر، كان الملك الراحل الحسن الثاني يصغي إلى بلاغة شعراء شنگيط الذين جاؤوا خصيصا لكي يتبارزوا بالكلمات أمامه، مدركين سعة اطلاعه وتمكنه من ناصية اللغة والخطابة وولعه بالشعر.
كانت ليلة ماتعة ختم بها الملك الراحل الحسن الثاني قيادته لاجتماع مغلق مع كل من الرئيس الموريتاني المختار بن دادة والرئيس الجزائري هواري بومدين، للخروج ببلاغ يدعو إلى استكمال انسحاب إسبانيا من الصحراء المغربية.
كان وقتها مشكل الحدود والصراع المفتعل في الصحراء يُطبخ بعيدا على نار هادئة، ولهذا السبب ربما لم يكن بومدين مرتاحا في جلسة الشعر التي ودع بها الملك الراحل نواذيبو، في 14 شتنبر 1970.
++++++++++++++++
ساعات من المحادثات في غرفة مغلقة للحسن الثاني ورئيسي موريتانيا والجزائر
عندما تأسست المطبعة الملكية، كان الغرض من إنشائها الاهتمام بالمنشورات التي توثق لأحداث مهمة، أو تعيد مخطوطات قديمة إلى الحياة.
لكن مهمة المطبعة الملكية هذه المرة كانت مختلفة قليلا، إذ تولت إخراج وثائق غاية في الأهمية، تجمع تفاصيل ويوميات رحلة الملك الراحل الحسن الثاني في شتنبر 1970 من الرباط، مرورا بأكادير إلى نواذيبو، التي وصل إليها صباح 14 شتنبر، وخصص له فيها استقبال تاريخي.
عبد الوهاب بن منصور، مؤرخ المملكة، الذي أشرف على جمع يوميات هذه الرحلة الملكية، قال في تقديم هذه المشاهدات، باعتباره عارفا أيضا بخبايا الديوان الملكي، وأجواء المكاتب الاستشارية للملك الراحل، وليس فقط مؤرخا للمملكة، ما يلي:
«وإنني أصدر في هذا العمل عن الرغبة في خدمة وطني والتنويه بمجهود وجهاد ملكي».
لم يتوقف بن منصور عند هذا الحد، بل مر إلى وضع الزيارة الملكية إلى نواذيبو في سياقها السياسي أيضا وليس التاريخي. إذ بعد استقبال الملك الراحل الحسن الثاني السفير الإسباني في يوم غشت 1970، لكي يتسلم منه أوراق اعتماده سفيرا في المغرب، قال الملك مخاطبا السفير الجديد في الرباط: «إنه لمن المخجل ألا تحل المشاكل بعد قيامها».
بعد أقل من شهر على هذا الاستقبال الملكي في الرباط، طار الملك الحسن الثاني إلى نواذيبو لكي يلتقي الرئيس الموريتاني ومعه الرئيس الجزائري، في نواذيبو، بعيدا عن أعين الإسبان، لكي يبحث معهما ملف الصحراء المغربية وانسحاب إسبانيا من الأقاليم المغربية.
سوف نأتي في هذا الملف إلى وصف أجواء الزيارة التاريخية، لكن الآن، لنمر مباشرة إلى ما سجله عبد الوهاب بن منصور، بخصوص القمة الثلاثية المغلقة التي جمعت الملك الراحل الحسن الثاني بكل من ابن دادة، الرئيس الموريتاني، وهواري بومدين، الرئيس الجزائري.
إذ جاء في تلك المشاهدات التي اختار لها مؤرخ المملكة عنوانا بسيطا، ينطوي على تشويق كبير، رغم أن مؤرخ المملكة عُرف عنه الكتمان والابتعاد عن السرد. لكنه في هذه الأوراق، أعاد إخراج الزيارة الملكية إلى نواذيبو، كما لو أنه مخرج سينمائي واقف وراء عدسة الكاميرا. يقول، متحدثا عن لقاء الرابع عشر من شتنبر 1970 بعد وصول الملك الراحل الحسن الثاني إلى الإقامة التي خصصت له في نواذيبو، واستراحة قصيرة في ذلك اليوم: «وبعد استراحة قصيرة استدعى جلالة الملك وزراءه ومساعديه للتذاكر معهم، وبينما هم في حضرته، وصل إلى المقام الملكي فخامة الرئيس المختار بن دادة وفخامة الرئيس السيد هواري بومدين، فخرج جلالته لاستقبالهما وتحيتهما. وفي الحين اختلا الرؤساء الثلاثة داخل البيت الواقع إلى جهة اليمين بالسفلي، بينما جلس أعضاء الوفدين المغربي والموريتاني بالبيت المقابل يتذاكرون.
وقبل أن تنتهي المحادثات استُدعي للمشاركة فيها أعضاء من الوفود الثلاثة، شارك من الجانب المغربي السيد إدريس السلاوي، المدير العام للديوان الملكي، والدكتور أحمد العراقي، الوزير الأول، والسيد عبد الهادي بوطالب، وزير الشؤون الخارجية. والسيد أبو القاسم الشريف، عضو مجلس الثورة، ومن الجانب الموريتاني السيد حمدي بن مكناس، وزير الشؤون الخارجية، والشيخ سعد بوكان، رئيس المجلس الوطني. وبعد ساعتين من المحادثات، فتح باب البيت الذي جرت فيه، وخرج الرؤساء الثلاثة وتوجهوا إلى السيارات التي نقلتهم إلى قرية «كانسادو»، حيث أعد الرئيس المختار مأدبة غداء لضيوفه بالفندق».
ما الذي وقع داخل الغرفة المغلقة الصغيرة، التي اجتمع فيها الملك الراحل الحسن الثاني بهواري بومدين وابن دادة؟ الجواب عن هذا السؤال يوجد في البلاغ الختامي الذي تُلي بعد الجلسة المعلنة، التي عقدها الملك مع الرئيسين الجزائري والموريتاني. إذ جاء في «مع جلالة الملك في نواذيبو»:
«خلال الاجتماع العلني تلا السيد عبد الهادي بوطالب، وزير الشؤون الخارجية للمملكة المغربية، النص العربي للبلاغ المشترك، في حين تولى السيد حمدي بن مكناس، وزير الشؤون الخارجية الموريتانية، قراءة ترجمته إلى اللغة الفرنسية».
من أقوى ما جاء في البلاغ، اتفاق الدول الثلاث، أي المغرب وموريتانيا والجزائر على ضرورة تحرير الصحراء المغربية من الاستعمار طبقا لقرارات الأمم المتحدة، ولأجل هذه الغاية «أسسوا لجنة ثلاثية للتنسيق، عهدوا إليها بالمتابعة الدائمة لتطور عملية تحرير الأراضي، وذلك في كل من المجالين السياسي والدبلوماسي».
عندما دعا بومدين إسبانيا إلى مغادرة الصحراء المغربية
لا يوجد أي تفسير تاريخي للانقلاب في مواقف الرئيس هواري بومدين. إذ ها هو البلاغ المشترك الذي وُلد في نواذيبو، يسجل عليه أنه دعا مع الملك الراحل الحسن الثاني إلى ضرورة تحرير الصحراء المغربية من الاستعمار الإسباني، بل وشارك في وضع لجنة لتتبع هذا الموضوع!
كانت اجتماعات القمة تعقد وتُرفع لكي يستريح الملك الحسن الثاني ورئيسا كل من موريتانيا والجزائر، ثم تُستأنف المحادثات بعد ذلك، إما بمشاركة وزراء الخارجية أو بدونهم.
كان هذا طبعا قبل صياغة البلاغ الختامي الذي عُمم على الصحافة الدولية ووكالات الأنباء العالمية.
في وصف هذه الأجواء جاء في مشاهدات بن منصور:
«أما وزراء الخارجية الثلاثة السادة عبد الهادي بوطالب وحمدي بن مكناس وعبد العزيز بوتفليقة، فإنهم لم ينعموا بقيلولة هذا اليوم الصائف. وفضلوا مواصلة المحادثات التي بدأها الرؤساء وحدهم، قبيل الزوال، ثم استدعوهم لحضورها في الأخير.
وفي الساعة الخامسة والنصف حضر إلى المقام الملكي فخامة الرئيس المختار بن دادة، فخرج جلالة الملك لاستقباله وقدم له في هذه الأثناء هديتين علميتين، تتكون كلتاهما من 150 كتابا مما عني ملوك المغرب بطبعه منذ أكثر من 100 سنة. إحدى الهديتين بقصد الرئيس الموريتاني سفرت كتبها تسفيرا أنيقا، والأخرى بقصد الخزانة العامة بنواكشوط. فتقبلهما الرئيس سيدي المختار شاكرا. وتشمل الهديتان على عديد من مؤلفات أهل شنگيط، التي طبعها السلطان مولاي عبد العزيز وأخوه السلطان مولاي عبد الحفيظ.
ثم خرج جلالة الملك الحسن الثاني وفخامة الرئيس سيد ولد المختار وتوجها بالسيارة إلى مقام الرئيس الجزائري السيد هواري بومدين، ولما بلغاه خرج لاستقبالهما، ثم اختلا الرؤساء الثلاثة لاستئناف المحادثات بينهم، بينما بقي وزراؤهم ومساعدوهم يتذاكرون بفناء المقام ومدخل عليته.
وخلال هذا الاجتماع اطلع جلالة الملك والرئيسان الموريتاني والجزائري على نص البلاغ المشترك الذي أعده وزراء الخارجية، خلال اجتماعهم بعد الغداء، وأقروا صيغته الأخيرة».
هكذا إذن وافق بومدين على دعم القضية المغربية في مواجهة إسبانيا، قبل أن ينقلب تماما في مواقفه بعد سنوات قليلة فقط، ليصبح عُرَّابَ الانفصال.
لقاء الملك الحسن الثاني بالرئيسين بن دادة وبومدين أثار قلق مدريد
«في بداية الأسبوع الثاني من شهر شتنبر شهد مطار نواذيبو حركة غير عادية، فقد أخذت ترد عليه من نواكشوط في غير الأوقات المألوفة طائرات تابعة للخطوط الجوية الموريتانية، حاملة موظفين مبعوثين من مصالح الرئاسة والبروتوكول والداخلية والخارجية والصحة والأمن والدفاع والبريد والأنباء، ليقرروا في مكان اللقاء وترتيباته، ويشرفوا على سيره وتنظيمه، أثناء وقوعه.
وكلما قرب يوم اللقاء، ازدادت مظاهر الزينة والاستعداد وضوحا. وتوارد على المدينة آلاف من «الشناگطة»، ليشهدوا هذا اللقاء التاريخي. وألصقت بالجدران وواجهات حوانيت صور رؤساء الدول الثلاثة، ورفعت رايات بلدانهم على المؤسسات العمومية وغيرها. وأقيمت أقواس النصر على طول الطريق، التي سوف تمر منها المواكب الرسمية».
هذه الأجواء، كما سجلها الديوان الملكي، أثناء الاستعدادات للقاء الذي كان مقررا أن يعقد في يوم 14 شتنبر 1970، بين الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس الموريتاني المختار ولد دادة، ثم الرئيس الجزائري هواري بومدين.
ولم يخل التقرير الذي أصدره الديوان الملكي، وأشرف عليه مؤرخ المملكة عبد الوهاب بن منصور، على رسميته، من لغة أدبية مشوقة تصف تلك الأجواء. إذ جاء فيه:
«لم يكن السرور والحماس المترتبان عن هذا اللقاء، قاصرين على سكان نواذيبو، وإنما امتد مدهما فشمل سكان مدينة الگويرة التي تحتلها إسبانيا الواقعة في الطرف المقابل على بُعد خمسة كيلومترات. فقد كان سكان هذه المدينة يعيشون هم أيضا في نشوة، بسبب مجيء جلالة الملك الحسن الثاني، ملك المغرب، إلى نواذيبو وحلوله قريبا من بلدتهم المصفدة الأسيرة. ويعلقون على اجتماعه هناك بأخويه الموريتاني والجزائري أكبر الأماني وأوسع الآمال، بانتهاء عهد العبودية والاحتلال..
وقد تمكن بعض الصحافيين المغاربة من الدخول إلى الگويرة، والاجتماع بنخبة من رجالها ونسائها، فشعروا بما يكنه هؤلاء من حب مكين وولاء عظيم لجلالة ملك المغرب. وحتى أنهم جميعا ودون استثناء يملكون صور جلالته وجلالة والده ويضعونها في بزاطيمهم كبطاقات التعريف، ويخرجونها بين الحين والحين ويقبلونها محترمين ومتبركين. وهذه العواطف المتأججة لم تكن تخفى على السلطات الإسبانية المحتلة. ولهذا اتخذت عددا من التدابير الوقائية، كتقوية الحامية العسكرية وتكثير الدوريات البحرية بالساحل والبرية بالمدينة والبادية، وتوجيه عدد من الجنود الإسبان إلى مراكز العبور بالحدود المصطنعة، مع أنه لم يكن يقيم بها من قبل إلا حراس من أهل الصحراء. ورفع العلم الإسباني على مركز الديوانة، الشيء الذي لم يقع من قبل».
وحسب وثائق الأرشيف الإسبانية، فإن مكاتب سلطات الجنرال فرانكو في مدريد كانت فعلا متخوفة من أبعاد لقاء الملك الراحل الحسن الثاني مع الرئيس الموريتاني، بحضور الرئيس الجزائري هواري بومدين.
إذ كان واضحا أن الزيارة لن تقتصر على بعدها الرمزي والوحدوي، خصوصا بين المغرب وموريتانيا، وأنها سوف تتجاوز الأمور السياسية إلى ما هو «قَبَلي»، أي المشترك بين المغرب والموريتانيين منذ قرون خلت.
كانت الأوضاع في الصحراء وقتها متأججة، سيما وأن الملك الراحل الحسن الثاني سبق له أن صرح في أكثر من مناسبة قبل ذلك التاريخ، أي قبل شتنبر 1970، مؤكدا أكثر من مرة على ضرورة استكمال المغرب لوحدته الترابية واستعادة الأراضي التي استعمرتها إسبانيا، على غرار انسحاب فرنسا منذ مارس 1956.
هذه التخوفات جعلت أجواء الإعداد للزيارة تتكهرب، حتى قبل أن يتم الإعلان رسميا عن اليوم والساعة التي سوف يحل فيها الملك الراحل الحسن الثاني في الصحراء.
الجنرال أوفقير حل بنواذيبو على متن طائرة
حرص فريق مؤرخ المملكة، عبد الوهاب بن منصور، على تدوين كل ما يتعلق بسفر الملك الراحل الحسن الثاني إلى «نواذيبو» أولا بأول. وهنا نورد ما جاء في توثيق وصول الجنرال أوفقير إلى مكان اللقاء:
«وفي يوم الجمعة 11 شتنبر سافر الجنرال محمد أوفقير، وزير الداخلية المغربي، إلى نواذيبو على متن طائرة «بوينغ 727-22» التي سيسافر عليها جلالة الملك، يرافقه موظفون من التشريفات الملكية والداخلية والأمن الوطني.
وقد قطعت الطائرة المسافة الفاصلة بين الرباط ونواذيبو، والبالغة 2000 كيلومتر، في مدة ساعتين ونصف الساعة. ولما نزلت بالمطار، كان السيد قاسم الزهيري، سفير المغرب بنواكشوط، والسيد عبد العزيز صال، وزير الداخلية الموريتاني، في انتظار الوزير المغربي، ومعهما عدد كبير من الموظفين المركزيين والمحليين.
وصباح يوم السبت 12 شتنبر، عقد الوزيران جلسة عمل درسا خلالها الترتيبات المتعلقة بزيارة جلالة الملك، وزارا فيلا الدار البيضاء المخصصة لإقامته، واطلعا على أشغال الإصلاح والتأثيث الجارية بها. كما عقد موظفو التشريفات المغربية والموريتانية جلسة عمل أخرى، دُرست خلالها مراسم استقبال جلالة الملك بالمطار وسير موكبه وإقامته، وكذلك برنامج المؤتمر الذي سيجتمع في قاعة لا تبعد إلا
بـ300 متر عن المقام الملكي. وحضر الاجتماعان معا السيد «نداو»، عامل نواذيبو.
وبعد ما تغذى الجنرال محمد أوفقير على مائدة نظيره الموريتاني، توجه صحبته على متن الجو في العشية إلى نواكشوط، ليتقابل مع فخامة السيد المختار بن دادة الذي عاد في اليوم نفسه من لوساكا، حيث كان يرأس وفد بلده في مؤتمر الدول غير المنحازة، وخلال المقابلة دارت بينهما محادثة تتعلق بالمؤتمر وترتيباته، وفي صباح يوم الأحد 13 شتنبر عاد الجنرال محمد أوفقير إلى المغرب على متن طائرة «ميستر 20»».
في الصباح نفسه الذي غادر فيه أوفقير إلى الرباط، حلت في نواذيبو طائرة تُقل الرئيس الموريتاني ومرافقيه قادمة من نواكشوط.
ولم يبق سوى وصول طائرتي الملك الراحل الحسن الثاني، وطائرة الرئيس الجزائري هواري بومدين، الذي كان الملك الراحل يتعامل معه بكثير من الحذر، خصوصا وأن المغرب كان يتوفر على تقارير أمنية ودبلوماسية تؤكد رعاية بومدين لأنشطة معادية للمغرب في المنطقة.
ولم يمض يوم 13 شتنبر، مع اقتراب المساء، حتى وصلت طائرة الرئيس هواري بومدين، الذي كان يرافقه وفد من كبار المسؤولين الجزائريين، يتقدمهم كل من أبو القاسم الشريف، عضو مجلس الثورة، ووزير الخارجية وقتها عبد العزيز بوتفليقة، بالإضافة إلى عسكريين وموظفين، بينهم نور الدين إسكندر، رئيس قسم الصحافة الجزائري.
قسم الصحافة الجزائري كان يروج لمقالات وأطروحات معادية للوحدة الترابية للمغرب، ولم يفوت مناسبات إفريقية وعربية لمباشرة حملات معادية للمغرب، وسط الوفود الرسمية المشاركة في تلك الملتقيات. لكن بدا واضحا أن شتنبر 1970، كان وقتها مبكرا جدا على بداية المخطط الذي قاده بومدين بنفسه، سيما وأنه لم يلعب وقتها أوراقه كلها ضد المغرب.
جاء في التقرير: «وشهدت شوارع نواذيبو، عشية الأحد وليلة الاثنين، حركة غير عادية وعرفت متاجرها رواجا استثنائيا لكثرة من وصل إليها من الزوار الوطنيين والأجانب، وقضى الناس ليلتهم في فرح ومرح ابتهاجا باجتماع قادة المغرب، وتفاؤلا بما سيسفر عنه لقاؤهم من خير لسكان المنطقة».
كواليس استقبال ملكي من قلب الطائرة الملكية وحواجز المطار
«في الساعة الحادية عشرة هبطت الطائرة في مطار نواذيبو، ولما أوقفت مفاعلاتها وفتحت أبوابها طلع للسلام على جلالة الملك سفيره السيد قاسم الزهيري، ومدير التشريفات الموريتاني، وفي الحين نزل جلالته من الطائرة وهو يلبس كسوة حمصية ويعتمر بعمامة معمولة من الثوب المسمى «شاراشاكر»، ويضع على عينيه نظارتين سوداوين اتقاء لأشعة الشمس الوهاجة. فوجد في استقباله بأسفل السلم فخامة الرئيس المختار بن دادة، محفوفا بأعضاء حكومته، وحاكم نواذيبو، وسفير المغرب بموريتانيا، وسفير موريتانيا بالمغرب والجزائر، وسفير الجزائر بموريتانيا والسينغال. فحيا الرئيس الموريتاني جلالة الملك، وهنأه بسلامة الوصول وتصافحا وتعانقا، وقدم كلاهما للآخر مرافقيه. ثم سارا إلى جهة الجند، فوقفا أمام العلم يحييانه، وهما يستمعان إلى النشيدين القوميين تعزفهما جوقة الموسيقى العسكرية. بينما كانت الأعلام المغربية والموريتانية والجزائرية تخفق فوق الأعمدة والمدافع، تطلق 21 طلقة تحية للقادم العظيم. وبعد المرور أمام واجهة الجنود الذين كانوا شاكي السلاح للتحية، تقدم جلالته إلى صف المستقبلين، من موظفين ومنتخبين وهيأة قنصلية، فسلموا عليه مهنئين، كما سلم عليه أعضاء السفارة المغربية والرعايا المغاربة القاطنون بنواذيبو وناحيتها. وإثر ذلك توجه جلالته ومُضيفه إلى قاعة الشرف بالمطار (..) تحرك الموكب قاصدا فيلا الدار البيضاء، التي أعدت لنزول جلالة الملك والتي لا تبعد عن المطار كثيرا. وعلى جانبي الطريق التي مر منها الموكب، وقف آلاف من الذكور والإناث الكبار والصغار الآتين من مختلف جهات صحراء شنگيط يحملون أعلام مغربية..».
استمر الموكب في المسير بضع دقائق، حيث تبع ركاب الجمال السيارة التي كانت تقل الملك الراحل الحسن الثاني إلى الإقامة، التي خُصصت لراحته والاستعداد للقمة الثلاثية.
كان هواري بومدين وقتها يستريح هو الآخر في الإقامة المخصصة له. ولا بد أنه كان متضايقا من وصول الملك الراحل الحسن الثاني، خصوصا وأن اللقاء في نواذيبو كان واحدا من آخر اللقاءات التي جمعته بالملك الحسن الثاني، مع ازدياد فتور العلاقات وانقطاعها سنة 1975، مباشرة بعد المسيرة الخضراء.
وحسب ما جاء في الإفادة المتعلقة بلحظة وصول الملك الراحل الحسن الثاني إلى الإقامة، التي حملت اسما مغربيا هو «الدار البيضاء»، مع كل ما يحمله الاسم من دلالات، فإن الرئيس الموريتاني حرص شخصيا أن يدخل الفيلا مع الملك الراحل الحسن الثاني، لكي يتجول معه بين غرفها وأروقتها ويطالع بنفسه مدى جاهزيتها، لكي تكون تحت تصرف الملك ومستشاريه ووزرائه. ولم يغادر الرئيس الموريتاني «الفيلا»، إلا بعد أن اطمأن على جاهزيتها.
قصة «قاسم الزهيري».. مهندس الرحلة من نواكشوط إلى «نواذيبو»
عندما تأسست وزارة الخارجية المغربية عند تعيين أول حكومة أواخر أيام سنة 1955، كان قاسم الزهيري، بإيعاز من قياديي حزب الاستقلال، أحد أقوى الأسماء المرشحة لدخول الوزارة وتقلد المسؤولية في مكاتبها، خصوصا وأنه عُرف بنشاطه ومقالاته في صحيفة «العلم».
لكن الملك الراحل محمد الخامس انتبه إليه، فقرر ألا يدفنه في مقر الوزارة بالرباط، وهكذا أرسله ليكون أول سفير مغربي في موريتانيا. فما هي قصة هذا الرجل؟
لقد نُسي الزهيري تماما، لولا أن «الأخبار» عرّفت به في سلسلة من البورتريهات، حيث عاد اسمه في حلقة عدد 19 أبريل 2018، وتذكره بعض من زملائه القدامى في وزارة الخارجية وتمثيلية قدماء الدبلوماسيين المغاربة، واستعادوا بعض الكواليس المثيرة التي عاشها، ولم يدونها في مذكراته.
في فاتح يونيو سنة 2004، عاد اسمه إلى الواجهة بعد سنوات طويلة من الغياب، لكن في نعي رسمي عبر قصاصة لوكالة المغرب العربي للأنباء، ليتذكره بعض الذين نسوا جزءا مهما من تاريخ الدبلوماسية لمغرب الاستقلال. توفي قاسم الزهيري عن عمر 84 سنة، قضى أغلبها في العمل السياسي والدبلوماسي، كواحد من الشباب الذين قُدموا للملك الراحل محمد الخامس وتم إعدادهم للتواصل مع الدول الإفريقية، ليكون بذلك أحد أوائل السفراء الذين عينهم المغرب رسميا، ومثل بلاده في السينغال ودول إفريقية أخرى. لكن أبرز عمل دبلوماسي قام به، هو تمثيل بلاده في المحادثات مع الصحراويين في أزمة «موريتانيا»، ليكون بذلك أول مغربي يزور موريتانيا رسميا مباشرة بعد تأسيسها، بأمر من الملك الراحل محمد الخامس، وأيضا أحد القلائل الذين كانوا شهودا على محادثات وكواليس الإعلان رسميا عن تأسيس موريتانيا.
هو أحد الموقعين على عريضة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، وأحد الشبان الذين كانوا مقربين من علال الفاسي في العمل السياسي والمقاومة.
في نهاية سنة 1956، كان يتم استدعاؤه إلى القصر الملكي مرات متكررة في الأسبوع، لحضور مباحثات واجتماعات مغلقة مع الملك محمد الخامس، بحضور ولي العهد وقتها، وعدد من الوطنيين، لتحديد لائحة ممثلي المغرب في الدول الإفريقية، وأصبح بعد ذلك أول سفير مغربي في السينغال، لكن مشكلة الأراضي المغربية في الصحراء والصراع مع الإسبان دبلوماسيا لاستعادة الأقاليم الصحراوية، فرضا على قاسم الزهيري أن يخصص مساره المهني كدبلوماسي في الموضوع، وكانت مهمته محفوفة بالمخاطر، عندما أرسله الملك محمد الخامس في زيارة خاصة للقاء قيادات موريتانية لنقل رسالة من الملك محمد الخامس، وبعد الإعلان عن تأسيس موريتانيا، عُين سفيرا بها، وكان حاضرا بقوة في عمق الأزمات الدبلوماسية التي عاشها المغرب مع موريتانيا، في عهد الملك الحسن الثاني أيضا. وبعد هذه المهمة الدبلوماسية، انكب على الاهتمام بموضوع الصحراء ومثل المغرب في مؤتمرات ولقاءات إفريقية. حتى أن الملك الحسن الثاني أخبره مرة بحضور رئيس السينغال سنوات الستينيات، وخاطبه قائلا: «فخامة الرئيس، أقدم لك سفيرنا قاسم الزهيري. لقد كان سفيرا في بلادك، أيام والدنا الراحل محمد الخامس، وهو اليوم يحصل على ثقتنا الكبيرة لتمثيلنا في المحافل الدولية وفي مباحثات استعادة أقاليمنا الجنوبية».
كانت هذه الشهادة في حقه، والتي أوردها مرافق الرئيس السينغالي في حديثه عن شخصيات مغربية التقاها خلال مساره الدبلوماسي، كافية للوقوف عند تقدير الملك الحسن الثاني لقاسم الزهيري.
عندما تقاعد في سنوات الثمانينيات، انكب على كتابة مذكراته ليوثق لجزء مهم من تاريخ المغرب الحديث، وقد عهد بها إلى المؤرخ عبد الهادي التازي لكي يشملها بقراءة أولية، ويقدمها إلى القراء والباحثين المغاربة. وهكذا فقد نشرها في بداية التسعينيات، وأهدى نسخة منها إلى الملك الراحل الحسن الثاني في إحدى المناسبات الوطنية، التي كانت آخر المرات التي يبرز فيها قاسم الزهيري كأحد الدبلوماسيين المغاربة الذين اختاروا الابتعاد عن الأضواء، بمجرد انتهاء مهامهم في السلك الدبلوماسي.
كما أنه جمع بعض مقالاته عن محطات دبلوماسية كما عاشها، وعنونها بـ«جنيف والعالم العربي»، وسرد فيها جزءا أوليا من مذكراته «مذكرات دبلوماسي»، التي خصص معظمها للحديث عن ظروف تأسيس موريتانيا وموقف الاستقلاليين والمغرب عموما من تلك المحادثات، بالإضافة إلى الصداقات التي جمعت المغرب بالدول الإفريقية، وأول الزعماء الأفارقة الذين نظموا زيارات رسمية إلى المغرب، بمجرد الإعلان عن الاستقلال.