بقلم: خالص جلبي
ما هو الإيمان؟ ما هو العلم؟ وهل يمكن المزج بينهما؟ هل يمكن أن نرسم معادلة يتوحد فيها العلم والإيمان فيصبحان كلاهما وجهين لعملة واحدة، أو طرفين لمعادلة مشتركة، أو تجليين لحقيقة أساسية واحدة.
(أولا) الإيمان ليس معرفة باردة، بل حالة نفسية تتحرك في مخططات لا تعرف الراحة؛ فقد تمر علينا في اليوم الواحد لحظات من القنوط الكافر، كما قد ننتعش بلحظات رائعة من الإيمان المحلق فهذه ميزة للإيمان.
وكان عيسى بن مريم يخاطب الجموع «كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين»، وكان يكلمهم بأمثال قائلا: هو ذا الزارع قد خرج ليزرع، فبعضه سقط على الطريق، وإذ لم يكن له أصل جف فلما طلعت الشمس احترق، ومنه وقع على الأرض فاختطفته الطيور، ومنه وقع بين الشوك فلما طلع اختنق، ومنه وقع في الأرض الطيبة فأخرج مائة وستين وثلاثينا.
كان يسوع يقرب الأفكار المجردة بقصص واقعية تدب فيها الحياة، ونحن نريد من بحثنا الحالي أن نسحب منه كل حيوية وحياة فلننتبه.
ما ينقص العالم اليوم ليس المزيد من كثافة المعلومات أن الكون رائع ومعقد وغامض ومبرمج وخلفه عقل مطلق، وما ينقصه حرارة الإيمان والتربية الروحية، ما ينقصه هو مزيج العقلانية مع التصوف. بعيدا عن اغتيال العقل عند شيخ طريقة، فمن قال لشيخه لا لم يفلح، والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل، والمريد بين الشيخين كالمرأة بين الرجلين. ما نحتاجه وثبة جديدة في الروح.
إن عيسى بن مريم أراد أن يقول للتلاميذ في مثل الزارع الشيطان يخطف القلوب كالطير تأكل الحب، والمحنة والاضطهاد يذهبان بالإيمان السطحي، ومن يتورط في وهم العالم وغرور الغنى سيختنق في شوك الحياة، ومن يجد البيئة المناسبة سيعطي ثمرا رائعا. فلنتعلم من حكمة المسيح، أين نلقي بذورنا.
(ثانيا) يعتبر الإيمان منبعا للطاقة لا ينضب، فمع كل انهيار نفسي يلجأ الإنسان إلى هذا الخزان الكوني المطيق، يملأ طاقته ويشحذ همته لتحمل الصدمات والألم والمعاناة، بما فيها صدمة الموت.
(ثالثا) يشكل الإيمان آلية تخلع معنى على الحياة، وبدون هذا تركبها العبثية التي تقود إلى التفاهة والانتحار أحيانا الذي هو بتعبير مختلف تقديم الاستقالة من الحياة، فليس فيها ما يستحق أن يعيشها الإنسان.
(رابعا) الإيمان محبة ومشاركة مع الخالق العظيم وكائناته، وهذا يعطي دفعا هائلا لتقدير الحياة والتمسك بها والمحافظة عليها والتواصل بها مع الآخرين، فتوفر جوا من السعادة لا ينضب. إن هذا لرزقنا ماله من نفاد، وما عندكم ينفد وما عند الله باق.
(خامسا) الإيمان يوسع نافذة الرؤية فيصبح الإيمان باليوم الآخر وملائكته مطا للشعور الإنساني أن الوجود ليس فقط ما يصل إليه بحواسه، وهذا يرفع الشعور إلى مستوى القداسة ويجعلنا نفهم الحياة أنها أكبر بكثير مما يتصور الواحد؛ فيخلع رحابة غير عادية على الوجود وراحة للروح، أن هناك قوة مطلقة لا نهاية لحكمتها وعدلها ورحمتها اللطيف الخبير لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
والإيمان (سادسا) يزيد وينقص في مؤشر لا يعرف التوقف، طالما كنا نمارس الحياة وهذا يستنفرنا أن نشحذ هذه الآلية التي يمكن أن تصل إلى أقصى درجات التوتر والنقاء، أو أن يخالطها لبس فتخسر الأمن فتصبح الحياة معها ضنكا (الذين آمنوا ولم يلبسوا لإيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
والإيمان (سابعا) يغير السلوك ويفيض على المشاعر فتكسو تعبيرات الوجه مسحة ملائكية نورانية (سيماههم في وجوههم من أثر السجود)، أو بالمقابل عندما وصف الله المجرمين الذين يعرفون بسيماههم فيؤخذ أحدهم بالنواصي والأقدام، كما وصف الأمراض النفسية أنها تنكشف من تعبيرات الوجه المحضة فتقرأ بلغة جديدة بدون صوت بلغة السيمياء (ولو نشاء لأرينكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول).
و(ثامنا) يعد الإلحاد حالة لا تطاق والإيمان ضرورة نفسية. روى هذا بشكل واضح «جيفري لانغ» في تجربته الروحية عندما كان مسيحيا فطلقها فأصبح ملحدا، ثم تحول بعد ذلك إلى الإيمان، وعرض تجربته مع القرآن والمسلمين في كتابه «الصراع من أجل الإيمان»، عندما اطلع على القرآن الذي وصفه بأنه يقوم بتحليل نفسيتك، فقبل أن تبدأ في عرض مشاكلك عليه يقوم بمفاجأتك باطلاعه على خبايا النفوس من شكوك وإشكالات، وبقدر ما كان القرآن له محلقا هاديا منيرا، بقدر ما كان المسلمون يفاجئوه بعاداتهم على أنها الإسلام.
و(تاسعا) الإيمان أمل دائم والكفر يأس مقيم والقنوط ضلال مبين.
و(عاشرا) يفتح الإيمان منافذ الفهم، والكفر يسدل الستار على الحواس ويغلق منافذ الفهم والاتصال بروح الكون وقوانين الطبيعة. من هنا استخدم القرآن لفظ الكافر، بمعنى الزارع، في سورة «الحديد» (كمثل غيث أعجب الكفار نباته) وليس الكافر تحديدا، كما هي في المصطلحات الشرعية.
والإيمان (حادي عشر) هو مشكلة اجتماعية سياسية، فالتوحيد ليس مسألة تيولوجية غيبية، بل أرضية سياسية. وهو تأسيس مجتمع أفقي لا يتخذ الناس فيه بعضهم بعضا أربابا من دون الله. وهو ما حققه الغرب سياسيا إلى حد كبير وغرق في وثنيته العالم الإسلامي، فهم يعبدون زعماءهم وكبراءهم فأضلوهم السبيل.
و(أخيرا) هناك علاقة جدلية ما بين الطقوس والإيمان واجتماع الناس، وكل دين له طقوس تخصه، فيجب أن لا يعيب أحد على أحد، كما تذكر النكتة أن بريطاني أنكر على صيني أن يضع طعاما على قبر ميت: هل سيقوم فيتناول هذا الطعام؟ أجاب الصيني بابتسامة هادئة: وهل عندما تضعون أكاليل الورد والزهور يقوم الميت فينتعش بروائحها. فهذه مشكلة العمى الثقافي والرؤية الانتقائية، فهذه اثنا عشر كوكبا من الأفكار في الإيمان وجدليته.
نافذة:
الإيمان يوسع نافذة الرؤية فيصبح الإيمان باليوم الآخر وملائكته مطا للشعور الإنساني أن الوجود ليس فقط ما يصل إليه بحواسه