شوف تشوف

الرأي

يسوع ضدّ مارين لوبين

كان جان ـ جاك بوردان، الصحافي الفرنسي والمذيع المشهور، يحاور جيل كيبيل، الأكاديمي المعروف المختصّ بالإسلام السياسي؛ فسأله، من وحي كتاب كيبيل الاحدث، عن الرابطة بين «داعش» وتصاعد شعبية «الجبهة الوطنية»، حزب اليمين المتطرف في فرنسا. هنا قامت قائمة مارين لوبين، زعيمة الحزب، فردّت على بوردان بثلاث تغريدات على «تويتر»، تحت عنوان واحد يقول: «هذه هي داعش»، أظهرت فيها ثلاثة مشاهد من فظائع تنظيم «الدولة الإسلامية»، جرى التوافق على الامتناع عن نشرها في مختلف وسائل الإعلام الفرنسي، بالنظر إلى وحشيتها القصوى.
لوبين اعتبرت أنّ الصحافي يجري مقارنة بين «داعش» و«الجبهة الوطنية»، فترأست حملة شعواء تحثّ ناخبي اليمين المتطرّف على مقاطعة وسائل الإعلام التي يعمل لديها؛ إلا إذا سحب سؤاله، وتراجع عن أقواله. بوردان، من جانبه، شدد مجدداً على أنه سأل عن الرابطة، ولم يعقد مقارنة؛ وبالتالي فإنه يرفض تماماً سحب سؤاله في الشكل كما في المحتوى. أكثر من هذا، ردّ البضاعة على لوبين، عبر تغريدة على «تويتر»، تُظهره وهو يرتدي كنزة «بابا نويل» الحمراء الساخرة، وقد رُسم عليها جورب صوفي قصير، يخرج منه دبّ صغير، وكتب: «هذا هو عيد الميلاد»!
وبمعزل عن المناوشة، التي شغلت الرأي العام الفرنسي، خلال الأيام الأخيرة، لا تفوت المرء ملاحظة صفة التضخيم التي اقترنت بعيد الميلاد في فرنسا، هذه السنة؛ على خلفية ليست دينية إلا بدرجات تالية وثانوية، لأنها أولاً سياسية (ذات صلة بأداء «الجبهة الوطنية» خلال الانتخابات المناطقية الأخيرة)، ثمّ أمنية (هجمات 13 نوفمبر الإرهابية في باريس). وهكذا، لا يُلام زائر باريس، وربما أصقاع فرنسا قاطبة، إذا راوده هذا التساؤل: أهذه، حقاً، بلاد اليعاقبة، العلمانية، التي تُطبّق بنجاح مبدأ فصل الدين عن الدولة، وتخوض معركة شرسة ضدّ الحجاب والنقاب والبرقع، ويسعى بعض ساستها إلى فرض لحم الخنزير في مطاعم المدارس الحكومية؟ أم هي، في واقع الأمر، عاصمة مسيحية، بل كاثوليكية تحديداً، وبامتياز؟
بيد أنّ الحال لم تكن هكذا، دائماً، في فرنسا ذاتها. ففي 24 ديسمبر 1951، نشرت صحيفة «فرانس سوار» الفرنسية خبراً لافتاً، جاء فيه: «جرى بعد ظهر أمس شنق البابا نويل أمام سياج كاتدرائية ديجون، ثم أُحرق على الملأ في الفناء. وتمّ تنفيذ هذا الإعدام الاستعراضي بحضور مئات من الأطفال رعايا الكنيسة، وبقرار من رجال الدين، الذين أدانوا البابا نويل بوصفه غاصباً وزنديقاً. ولقد وُجّهت إليه تهمة إضفاء الصفة الوثنية على عيد الميلاد، والاستيلاء عليه مثل طائر وقواق. كذلك يُلام البابا نويل في أنه دخل إلى جميع المدارس الحكومية، التي اُبعدت منها مغارة الميلاد».
الأنثروبولوجي الفرنسي الراحل كلود ليفي ـ ستروس كان قد جعل من هذه الواقعة متكأ لمقالة مطوّلة بعنوان «توسُّل بابا نويل»، نُشرت سنة 1952، وتُعدّ واحدة من أعمق مساهماته حول موضوعة العلاقة بين المقدّس والطقس الشعبي، وبين الفريضة والاحتفال. الدرس المركزي في المقالة هو التالي: صحيح أنّ الإيمان بالبابا نويل أمر مبهج، ولا ضرر فيه لأحد، ويمكن للأطفال أن يستمدّوا من شخصيته الكثير من السعادة والذكريات الجميلة التي سترافقهم حتى سنّ النضج؛ ولكننا بهذا «نهرب من السؤال، في الحقيقة، بدل أن نطرحه، لأنّ المطلوب ليس تسويغ الأسباب التي تجعل البابا نويل محبوباً من الأطفال، وإنما تلك الأسباب التي دفعت الكبار إلى اختراعه».
وفي جانب آخر هامّ من المسألة، ثمة مَن يحاجج، محقاً بالطبع، أنّ عيد الميلاد لم يعد مناسبة مسيحية محضة، بل بات أقرب إلى العيد الإنساني الكوني. وإذا كنتُ شخصياً لا أعترض البتة على «أممية» الأعياد الدينية، خاصة حين تقترن بطقوس الاحتفال الإنساني ومظاهر الفرح البشري (في جوانبه الفطرية والطفولية جوهرياً)، قبل اقترانها بشعائر المسجد والكنيسة والكنيس والمعبد؛ فإنني مع ذلك أوافق كثيراً على مشروعية السؤال الذي يطرحه زائر باريس، والزائر المشاكس بصفة خاصة، في أيام عيد الميلاد تحديداً. وإنني، من جانب آخر، في عداد أولئك الذين يؤمنون بأنّ ثنائيات العالم التقليدية العريقة («شرق» و«غرب»، جنوب وشمال، فقير وغنيّ، مقهور وقاهر…)، إنما تتبدّى وتتفجّر، على نحو روحي ونفسي ومادي أكثر حدّة وأشدّ وطأة، أيام أعياد الميلاد. وفي حاضرة عريقة وتعدّدية مثل باريس، يحدث عادة ــ لأسباب معقدة، بعضها واضح مكشوف وبعضها غامض مستغلق ــ أن يكون عيد الميلاد موعداً سنوياً لتذكير ابن البلد بأرضه وهوّيته المستقرة، وتذكير الغريب بغربته وهوّيته القلقة.
طريف، وإنْ على نحو مرير، أن يستعين بوردان بزيّ بابا نويل ـ ذي اللون الأحمر، للتذكير! ـ في مواجهة شراسة التحريض من جانب زعيمة اليمين المتطرف؛ مذكّراً، ربما، بأنّ يسوع الناصري كان غريباً بامتياز، عن أهله وفي أهله، وعن نفسه وفي نفسه. فهل أصلح من قدّيسه اللطيف، بابا نويل، أيقونةً لنصرة الغريب في وجه العنصرية؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى