حسن البصري
تلقيت دعوة كريمة من إدارة دار للرعاية الاجتماعية بتمارة لحضور حفل بمناسبة اليوم الوطني لليتيم.
يبدو الأمر عاديا، حيث يتجدد فيه الحديث عن نجوم خرجوا من رحم الخيريات، وينفض الغبار عن توصيات تصارع من أجل البقاء.
غير أن ما يدعو إلى القلق هو إصرار فئة عريضة من المجتمع على ربط الخيرية بكل ما هو قدحي. وحكى لي مدير ثانوية، يفخر بعبوره من خيرية عين الشق بالدار البيضاء، عن شيء من هذه النظرة الاجتماعية، وهو يتذكر سنواته بهذا المرفق قبل أن يمسح من الخريطة الاجتماعية ويتحول إلى طعم للمضاربين.
يقول صديقي: «كنت أركب سيارة أجرة، وفجأة اندلعت حرب كلامية بين سائق الطاكسي وشاب يقود دراجة نارية، وانتهى النزال بكلام مخل بالحياء، وقبل أن يواصل السائق الرحلة ويستوي خلف المقود، التفت إلي وقال: هاد ولد الخيرية خاصو لي يدوز عليه…»
وأمام قساوة الموقف، اضطر صاحبي إلى النزول من سيارة الأجرة، وراح يبحث عن طاكسي تسكنه الأخلاق .
وذات مساء، اختلت عقارب دماغ مطرب شعبي، (نسبة إلى الشعبوية وليس إلى الشعب)، فظهر في قناته على اليوتوب مستهلا مداخلته بالوعد والوعيد، بسبب استمرار اعتقال زوجته. وفي لحظة زهو، تجاوز الخطوط الحمراء، وهدد بتصفية أفراد من الشرطة في مدينة القنيطرة، ولم يكتف بالتهديد، بل وصفهم بأولاد الخيرية، وهو يعتقد أن مرفق الخيرية ينتج اللقطاء وأبناء الرذيلة ومخلفات عابري السرير، كما واصل تهديده للصحافيين، وقال في الشريط ذاته إنه سوف يدهسهم بسيارته…
لقد أنجبت «خيريات» المملكة القضاة والمحامين والمفوضين القضائيين ورجال ونساء القانون، لكنها لم تنجب يوما شخصا تافها ركب صهوة النجومية في غفلة من الناس، لذا آن الأوان لتصحيح كثير من العبارات الجاهزة وتفكيك عبوات ناسفة ورد الاعتبار للمؤسسة ونزلائها.
صحيح كانت الخيريات دوما تحت نفوذ رجال السلطة والأعيان، وكانت فضاء لتنزيل مقولة اليد العليا خير من اليد السفلى، قبل أن ينتفض كثير من الأطفال ويصروا على ركوب صهوة السلطة، فدخلوا بوابة أم الوزارات والثكنات والمحاكم، وتحولوا من أرقام في طوابير إلى شخصيات تتوقف عند العبور إليها الطوابير.
بين طرفين دار سجال طويل عريض، حول غارات تستهدف الدار الكبيرة «وتدمي قلوب عابري دور الرعاية الاجتماعية على امتداد هذا الوطن».
طالب الغاضبون ببيان حقيقة، وقال الراسخون في الفكر: «ليس السكوت دائما حكمة، فقد يكون السكوت عن الحق جريمة».
كل التضامن مع الكرة الأرضية، التي تتحمل الكثير من أجلنا وتستمر في الدوران رغم هذا الكم الهائل من التفاهة، الذي يجعلنا تحت رحمة الاحتباس الأخلاقي.
هناك الكثير من المفاهيم اللغوية الجاهزة، التي تربط الخيرية بكل ما هو قدحي، فكلما كثر الضيوف يقول المستضيف غاضبا :
«مالي عندي خيرية؟».
وكلما كثر نسل عائلة قيل إنها تحولت إلى خيرية.
وكلما كانت الوجبة فقيرة قيل:
«كلنا ماكلة الخيرية».
وحين يخرج طفل عن السطر، ويصنف في خانة الانفلات، ينعت بـ«ولد الخيرية»، وكأن هذا المرفق الاجتماعي لم ينجب وزراء ورجال دولة ومشاهير الفن والكرة وقامات الفكر والإبداع.
في عيد اليتيم، روضوا ألسنتكم واحفظوها من الانفلات.