ويرگان
إذا كنت شخصا تحب البر أكثر من البحر وتعشق الأشجار والوديان أكثر من الرمال الذهبية، لا تخجل من ذلك، بل دافع عن وجهة نظرك أمام الآلاف الذين يتغزلون بالبحر ويكتبون شعرا عن الشمس التي تغطس في المحيط.. تلك صورة شعرية بسيطة لا افتتان فيها بحر وشمس هل هذا كل شيء؟ هذه سياحة الأماكن السهلة. أخبرهم عن شمس تغرب خلف الجبال لكنها قبل ذلك تنثر ألواناً مدهشة تتدرج من الأصفر ثم البرتقالي فالأحمر على أشجار الغابات، حتى تظن أن هناك حريقا نشب بعيدا ويخبو كلما مرت الدقائق. إنه غروب مختلف كلما تزحزحت من مكانك شبرا أو خطوت خطوة واحدة إلى الخلف يحدث الفرق الهائل. دافع، وبشراسة، عن الأماكن التي منحتك شعورا خالصا بالسعادة التي اكتشفتها ابتداء من علو خمسمائة متر فوق سطح البحر، حيث تبدأ حكاية جمال الطبيعة حقا. لا تخجل من أن تخبرهم بأن رؤية البحر هائجا أو ساكنا تشعرك بنوع من الهدوء الكاذب المخادع. قل، ودون مواربة: أنا لست كائنا بحريا، إنني أشعر أمام البحر بالفراغ كما لو أن هناك أحدا يمسح ذكرياتي. على الأقل في الجبال لا يعلق بك ما لا يلزمك، كأن تعلق بك الرمال.. كم أشعر بالقرف من تلك الحبيبات المزعجة، أنت إنسان واليابسة هي مكانك الطبيعي والأصلي. قد نكون أقلية نحن الذين نحب الأعالي ولا نجد أي نوع من الافتتان في الشواطئ، لكننا ربما أقلية قيمة ومؤثرة.
1- «سيدي عدي»
أول مرة أكتشف فيها الجبل كان برفقة جدتي في «سيدي عدي»، قرية صغيرة جميلة في الأطلس المتوسط، زرنا الأقرباء والجدات والخالات اللواتي استجوبنني بدقة وبتناوب وبحنان لا تستطيع معه إلا أن تجيب عن أكثر الأسئلة إحراجا. حين وضعت المائدة حاولت جاهدة نكران لذة ذلك الأكل، شيء لا يصدق أن أتناول في هذه القرية الصغيرة أكلا لذيذا جدا. ظننت أن الرحلة انتهت هنا، وأنه بعد ليلة يمكننا العودة. لكن جدتي كان لها رأي آخر حين قررت أن نذهب حتى قرية أصغر في الأعالي، وأخبروني أن ذلك لن يأخذ وقتا طويلا. لم تكن هناك أي وسيلة للنقل سوى أقدامنا. بدت لي البلدات والدواوير مثل دمى روسية واحدة أصغر داخل أخرى أكبر، صعدنا وأنا أتعثر في كل شبر من تلك الطرق الوعرة، كنت ابنة الطرق السهلة بامتياز، شاهدت جدتي تسبقني وأنا أحاول التخلص من الحصى الذي علق بحذائي. شعرت بالإهانة الشديدة وأنا أتعثر في كل شبر من التواءات هذه البلدة، وجدتي التي كانت تشتكي من آلام الركبة وظننتها ستتعب أو تبطء، ظلت تمشي بخفة كما لو أن ساقيها تتذكران جيدا هذه الطرقات، كاد أن يغمى علي من قوة الهواء النقي الجاف الذي غمر رئتي. قضينا أكثر من ساعة حتى وصلنا إلى البيت الذي كان معزولا وشيد على مرتفع، كنت أنوي الاحتجاج على ما جرى لي طيلة الطريق لكن المنظر الذي وقفت عليه حينها كان مدهشا حقا. أمامنا تبدت أراض خضراء، ربى على مد البصر، قلت في نفسي: لقد فاتك الكثير، لقد ضاع نصف عمرك حين لم تأت إلى مكان كهذا من قبل. في تلك اللحظة لمت السفر الذي كنا نؤخذ خلاله إلى الأماكن السهلة التي تنتهي دون أي نوع من الاكتشاف، ولا جائزة كانت تنتظرنا عند نهايته.
أتذكر أننا أُجلِسنا خارج البيت في فناء ظليل يطل على براح من الأشجار، كان ذلك المنظر يستحق كل عناء. لم أتذمر بل ابتسمت مثلما قد يبتسم أي شخص تعرف للتو إلى صديق قديم، وجلست صامتة أنصت إلى أحاديث العتاب والمحبة بأمازيغية محلية جدا لا أفهم منها سوى القليل، أنظر إلى الشاي الذي سكب ورائحة الفطائر الطازجة، وأمامنا مئات من أشجار الجوز والزيتون، وأبعد من ذلك أشجار الأرز والصنوبر. نسيت كل الحنق الذي شعرت به وأنا أصعد إلى هذا المكان، لم أنبس بكلمة، فكرت فقط أنه رغم سنوات من التهميش والإهمال لمناطق كثيرة في الأطلس المتوسط، استطاعت هذه الأعالي أن تظل جميلة.
2- ويرگان
لقد كان شيئا أكثر من الحظ، ذلك الذي قادني نحو السكن في «أمزميز» لأكثر من ثلاث سنوات. حين وصلت إليها كنت متعبة جدا ومحبطة جدا من حياتي في مراكش. وجدت أن السكون هو سيد المكان، وبعد مضي أيّام قليلة من استقراري، بدأت أكتشف الدواوير والقرى القريبة، حيث بعد نصف ساعة من «أمزميز» تبدأ حفلة من المناظر المتنوعة هدية الصابرين الذين لا يحتقرون السكن في البلدات الصغيرة. ثم اكتشفت «ويرگان»، القرية العالية التي حين وصلت إليها فهمت أنني لا أحتاج للطيران، ففي النهاية كل الطيور تحلق لتحط في مكان عال، وفي ويرگان وجدت نفسي أحط على الجبل دون تحليق، بل مشيا، كثيرا ما شعرت بالغيرة الشديدة من الذين يمرون بجانبي ويصعدون بسرعة وخفافا إلى القمة، لكنني لم آت إلى هنا من أجل التسابق، بل يكفي أن أترك الهواء النقي الجاف يندفع إلى رئتي حتى أدرك أن ما كنت أستنشقه في المدينة كان شيئا آخر غير الأكسجين. والجائزة القيمة التي أجدها في انتظاري هي منظر القمم البعيدة الخضراء. كانت الجلسة في الأعلى والنظر إلى غابات خضر شاسعة قادرة على طرد الكثير من الآلام. غابات من أشجار العرعار والعرعار الأحمر والبلوط الأخضر.
حين تذهب إلى «ويرگان» لا تصطحب معك المدللين الذين سيشتكون من أي شيء وكل شيء، رافق الصامتين، فلا يمكنك أن تثرثر وأنت تتسلق الجبال، السفر إلى الجبل يعلمك أن تجمع حقيبتك بذكاء. الأهم فقط، فلا مكان للحديث الفائض عن الحاجة ولا للأمتعة الزائدة.
في ويرگان أفضل ما قد يحدث لك هو ذلك التحايل الذي تمارسه عليك الجبال، حين تبدو لك غير بعيدة بتاتا فتقول لنفسك: حسنا، لنكمل المسير، لكنك لا تصل إلا حين تجبر ساقيك على الاستمرار بعد التعب، وتبدو لك القمة قريبة ثم تدرك، بعد مرور نصف اليوم، أنك واهم وأن لا شيء في متناولك بعد، فينتابك الشعور بأنك رأيت كل ذلك من قبل، لأن هذه الجبال كانت هنا قبل آلاف السنوات وستبقى بعد أن نرحل بآلاف السنوات. في ويرگان هناك الكثير لتقوم به، الصيد في وادي ويرگان حيث سمك «الترويت»، القنص في محميات خروف «الأروي. والغزال والخنزير البري»، بالإضافة إلى التحليق بالمناطيد، وإذا كنت واحداً من الخوافين مثلي الذين يتهيبون من ركوب الهواء، تكفي مشاهدة الآخرين محلقين ناظرا إلى الكم الهائل من السعادة على وجوههم لتصيبك العدوى، السعادة معدية حقا.
يسألني الناس عما الجيد في السفر والعيش في المناطق الجبلية حيث الظروف المناخية الصعبة، وحيث في كل خطوة هناك منحدر أو منعرج، أقول لهم إنني كنت سعيدة في تلك الأماكن ليس لأن هناك يدا سحرية وجدت حلا لكل همومي، ولا لأنني كنت دون هموم هناك، بل لقد شعرت بخفة لأنني أخيرا كنت أنصت لنفسي من فرط السكون الذي كان باسطا نفسه على كل الأمكنة، صمت لذيذ غير مخيف ولا يبعث على الريبة، سكون الجبل الذي يرافقه صوت حيوان في مكان ما لا تقدر على تحديد موضعه بدقة، صوت الجبال والأشجار، صوت الطبيعة باختصار. إنني أعتمد كثيرا على تلك الأماكن العالية الصافية لأسترد عافيتي حيث الحج إليها مرة واحدة على الأقل كل سنة أصبح عندي أكثر من عادة بل عقيدة.