وهم الرقمنة
يمكن القول إنه إلى حدود اليوم ما زالت الحكومة حبيسة خطاب متضخم وغارق في النوايا الجميلة والوعود الوردية في ما يتعلق باستراتيجية التحول الرقمي، التي ستعلن وفاة الكم الهائل من الأوراق والمساطر البالية التي ما زالت طاغية في إداراتنا العمومية.
فمنذ ما يفوق عقدين من الزمن، والحكومات المتتالية تنتج الأطنان من الجمل والتصريحات والتقارير حول رقمنة الإدارة والحكومة الإلكترونية، لكن واقع الحال يقول إن ذلك مجرد «كلام في كلام» لا أثر له في الواقع. ومن يريد الوقوف على حقيقة خطاب الرقمنة عليه أن يزور أكثر من 1500 جماعة ترابية، ويحاول قضاء بعض المصالح الإدارية أو الحصول على خدمة عمومية، آنذاك سيفهم الهوة السحيقة بين الخطاب المعسول في الرباط والواقع المر بمختلف المناطق، سيما في المغرب العميق الذي ما زال فيه الحصول على شهادة إدارية يتطلب قطع المئات من الكيلومترات، ويفرض المرور على عدد من المعنيين.
والمفارقة الصارخة أن السرعة التي يسير بها القطاع الخاص في مجال الرقمنة تتجاوز بمسافات ضوئية سرعة السلحفاة التي تسير بها إداراتنا العمومية، فأمام هذا الاهتمام الكبير للمؤسسات الخصوصية والأبناك والمقاولات التي أدركت مبكرا أهمية التكنولوجيا الرقمية في تحقيق مكاسبها واستثمرت جيدا فيها، نجد أن التحول الرقمي في الإدارات العمومية يعرف بطئا، إن لم نقل تعثرا ومقاومة في التنزيل، والحقيقة أن الرقمنة كعنوان للشفافية والنزاهة تقلق لوبيات الفساد و«مسامر الميدة» بالإدارات العمومية، التي ترى في أي تحول إلكتروني نهاية لمصالحها وفرصها في كسب المال غير المشروع، لذلك تفعل كل ما في استطاعتها لإبقاء إدارتنا بالية ومتجاوزة لا تساير الطموحات.
إن رقمنة الإدارة ليست مجرد كلام تُلقيه الوزيرة المكلفة بالتحول الرقمي على مسامع البرلمان والقنوات العمومية واللقاءات الوطنية، بل من واجبها تحقيق انتقال ملموس الذي يشعر به المواطن في حياته اليومية. كما يقتضي الأمر من الحكومة نوعا من الجرأة في مواجهة جيوب المقاومة، التي تريد أن نعيش في القرن 21 بإدارة تنتمي إلى ثمانينيات القرن الماضي، غير عابئة بكل الثورات المعلوماتية التي تجري أمامنا كل يوم.
إن التحول الرقمي بالمغرب اليوم لا يحتاج إلى أية استراتيجية أو كلام معسول أو نوايا حسنة، بقدر ما هو بحاجة إلى إرادة سياسية للتغيير المنشود، فمعظم الإدارات الكلاسيكية اليوم لا تقدم نموذجا لإدارات القرب، لا من حيث جودة الخدمات، ولا من حيث آليات التواصل وحسن الاستقبال، والضحية الوحيد والأوحد هي مصالح المواطن التي ما زالت حبيسة «الموعد الذي قد يأتي وقد لا يأتي» و«الروجيستر» الكبير و«الكاشي رون»، ومكاتب الضبط المهمشة.