ومن لغا فلا جمعة له
في كل مرة أذهب فيها لسماع خطبة الجمعة أقول في نفسي إنني أرتكب إثما، إذ كثيرا ما أسمع إماما يرتكب شهادة الزور ويقلب الحقائق ويحشو أدمغة الناس بأفكار بالية ملفوفة في أثواب ثقيلة من الزخارف اللغوية المغرقة في التكرار والملل، فلا أستطيع القيام للمغادرة وأضطر للبقاء والاستماع إلى إنشاء طويل لا يشحذ عزيمة ولا يصقل قلبا ولا يجدد إيمانا.
وأخمن أن كثيرين مثلي يعيشون الوضع نفسه، ومنهم من انقطع عن زيارة المسجد أيام الجمعة لسماع الخطب المكرورة المدرة للنوم والمبلدة للحس، فيكتفي بأداء الصلاة في بيته حتى يجنب نفسه سماع لغو الخطيب.
ودائما عندما أسمع في القنوات الدينية المسيحية العظات التي يلقيها بعض هؤلاء الخطباء، ومنهم من تحول إلى نجم لديه قناته التلفزيونية الخاصة التي يخاطب عبرها ملايين التابعين له، أندهش من قدرة هؤلاء الخطباء على تتبع الأحداث الدولية والتعليق عليها من وجهة نظرهم الدينية، التي أختلف معها طبعا بشكل كلي.
وأقول في نفسي لماذا لا يجتهد خطباؤنا، رغم رقابة وزارة التوفيق المشددة على ما يقوله الخطباء وما يفكرون فيه، من أجل تحليل ما يحدث حولنا وطنيا ودوليا من وجهة نظر الدين.
ولو أنني كنت خطيب جمعة لكانت استرعت انتباهي تلك الدراسة التي أعدها موقع «أنتيرسيبت» المتخصص في تتبع أخبار شركات بيع السلاح، والتي انتهت إلى أن أرباح هذه الشركات تضاعفت في السنوات الأخيرة بفضل «داعش».
وقال لوكهيد مارتن، صاحب أكبر شركة لبيع الأسلحة في أمريكا، إن إسقاط تركيا لطائرة روسية في سوريا سيرفع من مبيعات أسلحة شركته التي حققت رقم مبيعات كبيرا بفضل وجود «داعش» في الشرق الأوسط.
وفي السياق ذاته، نشرت منظمة العفو الدولية تقريرا تقول فيه إن ترسانة الأسلحة التي تستخدمها «داعش» مصدرها الصين وروسيا وأمريكا.
الأمر واضح إذن، الحكاية كلها تجارة في تجارة، وهي ليست تجارة عادية بل تجارة تحرك أقوى البورصات العالمية وتتحكم في انتعاش أو ركود اقتصادات الدول الكبرى، مثلما تتحكم في صعود المستشارين إلى الكونغريس والرؤساء إلى البيت الأبيض في أمريكا، وتتحكم في الإعلام والسياسة كما هو الحال في فرنسا مع داسو صاحب مجموعة «لوفيغارو» الإعلامية وصانع طائرات «الرافال» التي قصفت بالأمس العقيد القذافي وتقصف سوريا اليوم.
وعندما نتأمل لماذا تحارب القوى العظمى الإسلام فليس لأن الأذان يزعجها أو لأن الحجاب يضايقها أو لأن تجنب المسلمين لأكل لحم الخنزير يثير امتعاضها، بل إنها تحارب الإسلام لأن مقاصده العميقة هي الرحمة والحلم والمودة والتي تصب جميعها في هدف واحد هو السلام، وهي مقاصد تقع على الطرف النقيض لمقاصد ما يعتبرونه حضارة وحداثة وتقدما، والتي تقوم على الاحتراب والتقاتل والبغي واستعباد الشعوب وتفقيرها ونهب خيراتها تحت غطاء شعارات تتغير حسب الهدف.
إن فهم مقاصد الشريعة الإسلامية على حقيقتها وتطبيقها يعني ببساطة نهاية الحروب والمجاعات والفقر والتلوث.
فالإسلام يعلمنا احترام الإنسان وتكريمه والرأفة بالحيوان ورعاية وحفظ النبات والشجر والزرع. الإسلام يعلم طهارة البدن والمكان، طهارتين ضروريتين لحفظ الجسد من الأمراض والمجال من التلوث الذي لأجله تعقد اليوم القمم العالمية للبحث له عن مشاكل حتى لا ينقرض الإنسان بسبب المجاعة.
والإسلام يعلم الاعتدال في الأكل كما في كل شيء، فليس الأكل ما هلك البشرية وتسبب لها في الأمراض والعلل، بل الإسراف في الأكل هو السبب، فالله تعالى لم يقل لنا لا تأكلوا ولا تشربوا بل قال «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين».
والإسلام يعلمنا في السنة أننا قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع، في الوقت الذي تعلم فيه حضارة الغرب الإفراط في الأكل والاستهلاك بدون مناسبة لكل ما يصنعونه من طعام مسرطن، لكي تحصل شركات الأدوية في النهاية على مرضى زبائن لديها مدى الحياة يعانون من أمراض مزمنة.
والإسراف هو ما يدفع بالدول الغنية إلى رمي 400 مليار دولار سنويا من الأغذية إلى القمامة بينما يتضور 800 مليون إنسان من الجوع عبر العالم.
ببساطة لو تم شرح مقاصد الإسلام لسكان هذا الكوكب، عوض ترك البغدادي يلخص لهم الإسلام في قطع الرؤوس وسبي النساء وتدمير الآثار، ليسهل بعد ذلك نهبها وبيعها لسماسرة المتاحف العالمية بملايين الدولارات، لدخل الناس في الإسلام أفواجا أفواجا.
لكن قوى الشر المتحكمة في مصير مليارات النسمات عبر العالم يعرفون أن مشاريعهم الخبيثة المبنية على زرع الفتن والحروب لترويج بضاعتهم القاتلة، ستنتهي في اليوم الذي يفهم فيه العالم أن الإسلام دين رحمة وليس دين عنف وقتل، كما أنه دين عزة وكرامة وانتصار للحق عندما يقتضي الأمر الدفاع عن النفس والعرض والوطن.
وأمام مثل هذا الدين العظيم الذي يطمح لتعميم الرحمة على العالمين تضع الشركات العالمية الكبرى مصالحها دائما فوق كل اعتبار.
وسواء كانت شركات لإنتاج الأمصال المقاومة للفيروسات المعدية أو شركات لصناعة السلاح، فإن المعركة الحقيقية لا تدور في المختبرات الطبية وإنما تدور دائما على شاشات البورصات العالمية.
والشيء نفسه ينطبق على الشركات الكبرى المتخصصة في صناعة الأسلحة، فبدون حروب تصاب أسهم هذه الشركات بهبوط حاد في البورصات، وتصبح مهددة بالإفلاس، ولذلك تصبح الحروب قضية حياة أو موت، بالنسبة إلى شركات صنع الأسلحة طبعا، وليس بالنسبة إلى الدول التي تخوض هذه الحروب.
ولعل الشرق الأوسط ودول الخليج والقارة الإفريقية تبقى أكبر سوق حرة لبيع الأسلحة المصنعة أوربيا وأمريكيا. والقارة الإفريقية هي القارة التي عرفت أكثر الحروب الأهلية والانقلابات والمشاكل السياسية التي تستدعي من البلدان المتخاصمة إبرام صفقات بملايير الدولارات للتزود بأحدث الأسلحة تحسبا لإعلان أحد الجيران الحرب بشكل مفاجئ.
وهذا تقريبا يحدث في كل دول العالم الثالث التي لا تستطيع صنع رصاصة واحدة وتكتفي باستيراد كل أسلحتها من الشركات العالمية المسيطرة على هذا القطاع.
وإفريقيا ليست فقط سوقا لترويج أسلحة الشركات العالمية، وإنما هي أيضا سوق لترويج العقاقير والأدوية المضادة للأمراض المعدية والقاتلة. فأغلب حكومات الدول الإفريقية تصرف جزءا كبيرا من ميزانياتها لاقتناء أدوية مضادة لأمراض تظهر في دولها فقط.
ولعل الجميع يتذكر الحملة العالمية في وسائل الإعلام التي رافقت الإعلان عن فيروس «أنفلونزا الطيور»، وكيف تم التسويق على نطاق واسع لدواء «الطاميفلو» المضاد للمرض. وبمجرد ما تزودت كل الدول بمخزونها الخاص من هذا العقار وتوصلت المختبرات العالمية التي تملك براءة اختراع الدواء شيكاتها بالعملة الصعبة، لاحظ الجميع كيف تراجع الحديث عن ضحايا «أنفلونزا الطيور» إلى المرتبة الثالثة أو الرابعة في ترتيب مواضيع نشرات الأخبار، إلى أن اختفى نهائيا، لكي يظهر بعده فيروس «أنفلونزا الخنازير»، لكي يختفي بدوره بعد استنفاد مخزون التلقيح وآلات الفحص بالأشعة التي توضع في بوابات المطارات، كتلك التي بيعت لكل مطارات العالم لحمايتها من دخول مصابين بفيروس إيبولا، فاختفى الفيروس وبقيت البوابات باهظة الثمن كديكور.
إنها حضارة مبنية على الابتزاز والسطو والبغي، عكس الإسلام الذي يدعو إلى الرحمة وإعطاء كل ذي حق حقه وعدم بخس الناس أشياءهم.
لهذا يخشون الإسلام ويحاربونه، لأنه دين عظيم ولأنه دين الحق، «والله متم نوره ولو كره الكافرون».