شوف تشوف

الرأي

وماذا عن عنصريتنا نحن؟

توفيق رباحي
الاحتجاجات التي عاشتها الولايات المتحدة في الأسبوعين الماضيين هزت العالم، ووضعته وجها لوجه مع نفسه. لكنها لم تحرك المجتمعات العربية، إلا من زاويتين مخجلتين: التشفي والفرجة.
في بريطانيا، التي تشهد عنصرية مشابهة لتلك المنتشرة في أمريكا وإن بدرجة أقل فظاظة، تحرك المجتمع المدني وأعضاء في البرلمان بقوة للتظاهر وبحث الدروس التي يمكن استخلاصها من المأساة الأمريكية. الحكومة البريطانية وجدت نفسها فجأة تحت ضغوط سياسية واجتماعية، لتحمل مسؤولية تفادي تكرار السيناريو الأمريكي. فالظروف الاجتماعية متشابهة في البلدين، ووقود أي حريق جديد ليس بالضرورة موت رجل أسود مختنقا تحت ركبة شرطي أبيض.
في فرنسا، التي تنخرها عنصرية «ممأسسة»، وقعت الاحتجاجات الأمريكية مثل «كف على الخد». الكثير من مكونات المجتمع المدني ووسائل الإعلام الفرنسية انتبهت إلى أن الشرطة الفرنسية ليست أفضل من الأمريكية، في معاملتها للملونين وذوي الأصول الأجنبية. فرنسا لديها عار آداما تراوري (شاب من أصل مالي توفي في صيف 2016 داخل عربة للدرك الفرنسي أثناء اعتقاله بفظاظة) وآخرون، وأمريكا لديها جورج فلويد وآخرون. المجتمع المدني الفرنسي بخير، بدليل أن وفاة تراوري تحرك إلى اليوم احتجاجات تطالب بالقصاص له. لكن سياسيا، تعيش فرنسا حالة إنكار عبر عنها الرئيس ماكرون بتواريه، على عكس زعماء الدول الكبرى، وراء صمت مشبوه يقول الكثير.
في فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا ودول أخرى، خرج آلاف المتظاهرين يعبرون عن تعاطفهم مع الأمريكيين، ويعلنون رفضهم لما يجري في أمريكا، وخوفهم من أن يتكرر عندهم، لأن المجتمعات الغربية غير محصنة من احتمال تكرار السيناريو. الفرق أن المجتمع الأمريكي أكثر جرأة، في القتل وفي الاحتجاج على القتل.
أما في المجتمعات العربية المسكونة للعظم بأنواع من العنصرية، فلا ردود إلا من فائض من فيديوهات الفرجة وتعليقات التشفي والتسلية. هذا «الشلل» دليل على غيبوبة عميقة أصابت العقل العربي.
المجتمعات الغربية تعاني من ثلاثة أنواع من العنصرية.. عنصرية اللون وبدرجة أقل خطورة العنصرية الطبقية (الاقتصادية)، وحديثا العنصرية الدينية بسبب الجرائم الإرهابية المنسوبة لمسلمين.
أما المجتمعات العربية فتُبدع، من المحيط إلى الخليج، في أنواع العنصرية. وأخطر من انتشار العنصرية غياب الشعور بوجودها. عند العرب عنصرية اللون، إذ تنتشر بينهم بلا أي رقيب عبارات السخرية من أصحاب البشرة الداكنة. وأنا واثق أن لكل مجتمع عربي قاموسه الخاص في هذا المجال.
ولدى المجتمعات العربية عنصرية عرقية يُعبر عنها بتعالي الأغلبية من السكان على أبناء الأقليات، فيرد هؤلاء بعنصرية تنبع من اعتقاد أن كونهم أقلية يجعل منهم فئة أفضل، ناهيك عن شعور أنهم أبناء البلد الأصليين وغيرهم وافدون غير مرغوب فيهم.
وتعاني من عنصرية دينية تعتبر غير المسلمين كفارا وأقل شأنا في الدنيا وأسوأ مصيرا في الآخرة. وداخل الدين الواحد، الإسلام، تنتشر عنصرية بين الطائفتين الأكبر، وتمتد لتحتقر الطوائف الأصغر حجما وتأثيرا.
وتعاني بعض المجتمعات العربية أيضا من عنصرية إدارية، تتجلى في وجود المحرومين من جنسية البلد الذي يعيشون فيه. الـ«بدون» ماركة عربية بامتياز لا منافس لها. ولدى العرب عنصرية سوسيولوجية ابتدعها سكان المدن، ويعبرون عنها بسخريتهم من سكان الأرياف والبوادي وتقليلهم من شأنهم. ولديهم عنصرية جنسية متمثلة في الشعور بتفوق الذكر على الأنثى وتحكمه في مصيرها، منذ لحظة ولادتها. ويعاني المرضى وكبار السن وذوو الاحتياجات الخاصة والمختلون ذهنيا من نصيبهم الوافر من العنصرية. فكل مجتمع عربي لديه قاموسه الثري في وصف البدناء والضريرين، والذين يعرجون في مشيهم وغيرهم.
بعض العنصرية العربية يمكن ملاحظتها في الحياة اليومية، من دون الحاجة إلى جهد كبير. وبعضها الآخر غير ملموس ولكنه متجذر في لاوعي الناس، ويقفز إلى السطح في المواقف الصعبة والأزمات. هذا الثراء في العنصرية العربية ينهل من مصدر واحد: المناهج المدرسية والمساجد والخطاب الإعلامي. وتتكفل بالباقي التنشئة الاجتماعية للفرد والمجموعة وعجز المجتمعات، بمدارسها ومساجدها ومؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، عن الاعتراف بوجود مشكلة.
هذه الآفات عائق رئيسي أمام تطور المجتمعات العربية، ويحرمها من سِلمٍ داخلي هي في أشد الحاجة إليه لتستقر وتستمر.
جورج فلويد موجود في كل مكان من هذا العالم. وموجود عند العرب، حتى لو لم يقتلوه مثلما قتل الأمريكيون «جورجهم». معاناته تختلف حسب الجغرافيا والسياق الاجتماعي. مرة «إني أختنق»، وأخرى «لم أجد وظيفة منذ تخرجي قبل عشر سنوات»، وفي مرة ثالثة «الشرطة لا تتوقف عن مضايقتي في الشوارع لمجرد أن بشرتي داكنة»، وأحيانا «المجتمع يسخر مني بلا توقف لأنه يراني مختلفا».. إلخ.
العنصرية تخنق العالم، لكن العرب لا يشعرون بها إلا عندما يكونون ضحاياها في ملاعب الآخرين. الإنكار الذي يعيشه العرب تجاه تفشي هذه الآفة في مجتمعاتهم أخطر مما هو عليه الحال في الغرب. في هذا الغرب، رغم كل العيوب، تحافظ المجتمعات على نبض مقاومة. أما عند العرب فالصمت مطبق والصورة مثيرة للشفقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى