وليام بيرنز والقناة الخلفية
مالك التريكي
في أواخر نونبر 2001 أدى القصف الأمريكي المكثف على أفغانستان إلى تبديد شمل قوات طالبان، فأخذ قادتها في بذل المحاولات للاتصال بحميد قرضاي، قبل أن يتولى الرئاسة المؤقتة للبلاد، عارضين عليه رغبتهم في التوصل إلى تسوية. فقد «انهزمت طالبان شر هزيمة»، حسب قول عضو بعثة الأمم المتحدة إلى أفغانستان، بارنت روبن: «ولم يكن لها من مطالب سوى العفو». وقد ظل الرسل في غدو ورواح بين مقر الملا عمر، في قندهار، وحميد قرضاي الذي كان يسعى بكل جد إلى ترتيب تسوية تستسلم بموجبها طالبان استسلاما تاما. لكن إدارة بوش لم تكن آنذاك في مزاج متقبل للمفاوضات والتسويات، لأنها كانت موقنة أن القضاء على طالبان سيكون مبرما. وقد عبر رامسفيلد عن ذلك بالقول إن «الولايات المتحدة ليست ميالة إلى التفاوض حول حالات الاستسلام»، كما أنها لا تريد الملا عمر إلا أسيرا أو قتيلا.
هذا ما ترويه الصحافية أليسا روبن، التي كانت شاهدة على الغزو الأمريكي لأفغانستان، في سياق تدليلها على أن أمريكا بددت فرصة للتوصل إلى اتفاق أو صفقة مع طالبان في 2001، وأنه كان يمكن للحرب كلها ألا تقع بالمرة لو أن إدارة بوش استطاعت أن تقاوم إغراء الحل العسكري الذي كان يبدو في الظاهر سهلا ناجعا ومغنيا عن كل ما سواه.
فها هي أمريكا تضطر الآن، بتأخير طفيف لا يتجاوز عشرين سنة (!) إلى التفاوض مع طالبان ذاتها، لكن بعد أن قويت شوكتها وصارت ممسكة بجميع الأوراق. ومعروف أن التفاوض العلني بدأ منذ 2020 بقرار من ترامب. لهذا قال السفير الأمريكي السابق في أفغانستان رايان كروكر: «لما سمعت أن أمريكا ستفاوض طالبان في الدوحة دون مشاركة الحكومة الأفغانية، قلت إن هذه ليست مفاوضات سلام وإنما هي محادثات استسلام». على أن الفارق بين 2001 و2020 هو أن المستسلم هي أمريكا لا طالبان.
أما التفاوض السري، بعد استيلاء طالبان على كابول الشهر الماضي، فقد بدأ عندما كلف الرئيس بايدن مدير وكالة «سي آي إيه»، وليام بيرنز، بالسفر، الاثنين، إلى كابول للاجتماع بزعيم طالبان عبد الغني بردار. لقاء مدهش حقا بين «الجاسوس الأمريكي الأول» (كما تصف الصحافة الأمريكية أي مدير لـ«سي آي إيه») والإرهابي الأفغاني الأول. لقاء مدهش حتى لو لم يكن سريا. بل إن في الموقف من السوريالية ما حمل «واشنطن بوست» على القول إن من سخرية الزمن أن يكون بردار هو مخاطب بيرنز ونظيره في هذا الاجتماع. لماذا؟ لأنه سبق لـ«سي آي إيه» ذاتها أن ألقت القبض على بردار، قبل إحدى عشرة سنة، فبقي رهين الحبس ثماني سنين.
وليس بيرنز، ذو السمعة المحترمة والسيرة العريقة في الدبلوماسية، بغريب على الاتصالات السرية والقنوات الخلفية. وتتضمن مذكراته التي صدرت عام 2019 بعنوان «القناة الخلفية: الدبلوماسية الأمريكية في عالم منخرم» شهادات وتفاصيل كثيرة عن تجربة الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق. ومما يرويه أنه بدأ، بعد سويعات فقط من وقوع هجمات 11 شتنبر، في إعداد تقرير لوزير الخارجية كولن باول عن الخطوات الواجب اتخاذها، وأنه حرره بخط اليد لأن أجهزة الكومبيوتر في وزارة الخارجية تعطلت يومذاك. وقد أخبره باول يوم 12 شتنبر أن رامسفيلد أثار في اجتماع مجلس الأمن القومي، مسألة الخطر الذي يمثله صدام. كما أن نائبه، بول وولفويتز، ألح في الأمر بعد ذلك بأيام. لهذا طلب بوش تحقيقا عاجلا في مدى تورط صدام في الهجمات، فأتى الجواب بالنفي القاطع. عندها قرر بوش أن الأولوية إنما هي لشن عمل عسكري ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان. «بيد أن فكرة شن هجوم استباقي لإسقاط صدام قد أخذت تتقدم رويدا. ففي نونبر وجه رامسفيلد، بمباركة من الرئيس، تعليمات إلى القيادة المركزية بتحديث خطط الطوارئ المتعلقة بالعراق، بغرض قطع رأس القيادة العراقية وتعويضها بحكومة مؤقتة».
ولم تلق دعوات التعقل من مكتب شؤون الشرق الأدنى، في وزارة الخارجية، أذنا صاغية. فقد صار تغيير النظام في العراق هو المحك الحقيقي لموقف الإدارة الأمريكية من العالم بعد 11 شتنبر. ذلك أن إسقاط حكم طالبان قد أتى بمنتهى السرعة والسهولة. وكان الرأي عند المحافظين القدامى، مثل تشيني ورامسفيلد، أن الرسالة التي وجهت في أفغانستان ضرورية، لكن غير كافية. بل لا بد من توجيه ضربة أخرى أكبر، لردع الأعادي في منطقة لا يفهم أهلها من لغة سوى القوة. أما بالنسبة إلى المحافظين الجدد مثل وولفويتز وداغ فيث، فإن الإطاحة بصدام ليست مجرد رسالة، بل هي فرصة لإنشاء نموذج ديمقراطي في العراق، وبدء تحويل المنطقة بأكملها، وتوكيد الهيمنة الأمريكية مجددا، بعد سنوات التعلق الساذج ببشائر ثمار السلام في أعقاب نهاية الحرب الباردة.