شوف تشوف

الرأي

ولن ترضى عنك محاكم اللاسامية

مالك التريكي
التقرير الميداني جنس إخباري تلفزيوني متطلّب. وقد تكاثر عدد المراسلين التلفزيونيين تكاثرا بالغا، بحيث صار من الصعب لأحد الامتياز أو التميز. إلا أن هنالك مراسلين مجيدين، بل وحتى صفوة من المراسلين المبدعين. ولا شك أن مراسلة «بي بي سي» الدولية، أورلا غرين، تنتمي إلى هذه الصفوة. مراسلة لا تنازل عندها، أيا كان الحدث والملابسات، عن مرتبة الرقي التي التزمتها. ولهذا فإن آيات جدارتها لا تفتأ تتجدد مع كل تقرير. ولست أعرف من صنو لها في هذا الرقي إلا زميلها الراحل تشارلز ويلر الذي كان مراسلا عظيما حقا، بإجماع الزملاء والعارفين.
ولولا نزاهة أورلا غرين وشجاعتها لما كانت هدفا، مثلما هي من حين لآخر، لحملات أنصار دولة إسرائيل الشكائين البكائين دوما عن دراية وتخطيط وتصميم. فقد أثار اللوبي الصهيوني في بريطانيا قبل أيام ضجة ضدها بمناسبة تقرير ميداني عن الهولوكوست. ولكن الأمر لم يتوقف هذه المرة عند حد اللوبي الصهيوني، بل إن رئيس مجلس إدارة «البي بي سي» السابق، مايكل غريد، ومدير قنواتها التلفزيونية السابق، داني كوهين، قد سارعا هما أيضا بالانضمام إلى الحملة، كل حسب اجتهاده. على أن غريد (وهو الآن عضو في مجلس اللوردات عن حزب المحافظين) ليس بمتطفل على ولائم شكاوى اللاسامية واتهاماتها، فقد سبق له أن قدم عام 2015 شكوى رسمية ضد أورلا غرين ذاتها (!) بتهمة تضليل المشاهدين تضليلا مباشرا في أحد تقاريرها من الأراضي الفلسطينية (وهذه قصة أخرى لا يتسع المجال اليوم للخوض فيها: قصة «التطابق التام في وجهات النظر»، حتى لا نقول شيئا آخر، بين معظم أفراد النخبة السياسية والإعلامية في بريطانيا وبين مناضلي الدعم اللامشروط لدولة إسرائيل). فلماذا نقم هؤلاء على الصحافية الإيرلندية حتى يرموها هذه المرة أيضا بتهمة اللاسامية؟ أن تقريرها تضمن، في زعمهم، «محاولة لربط صلة بين فظائع الهولوكوست وبين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي». أما ما زاد الطين بلة «وأضاف الشتيمة إلى الجريمة»، حسب قولهم، فهو أن التقرير «قد استخدم صور ضحايا الهولوكوست في نصب ياد فاشيم، أثناء بث المقطع الذي تم فيه ربط الصلة» بين الأمرين. فماذا قالت الصحافية بالضبط في تقريرها الذي بث في سياق الاستعدادات لإحياء الذكرى الخامسة والسبعين لتحرير أسرى معسكر الإبادة النازي في أوشفيتز- بيركانو؟ أجرت حوارا مع إحدى الناجيات من هذا المعسكر، ثم قالت في نهاية الحوار: «هذه صور الضحايا في نصب الأسماء في ياد فاشيم. وهؤلاء جنود يافعون يحتشدون لاستخلاص العبرة من المأساة التي توحد الشعب اليهودي. دولة إسرائيل الآن قوة إقليمية. وهي منذ عقود تحتل أراضي فلسطينية. ولكن بعض الناس هنا (تقصد الفلسطينيين) سينظرون دوما إلى أمتهم (تقصد أمة الجنود) من منظار الاضطهاد والصراع من أجل البقاء». هل هنالك كلام أكثر ضبطا، بل أبلغ صمتا على الوقائع الصارخة وأشد حرصا على عدم التحيز لأي طرف كان، من هذا الكلام المصفى، بل المعالج بكيمياء اللفظ إلى حد التعقيم؟ وهل يمكن لأي امرئ عادي، ممن لم تؤثر سرديات العالم الغربي وأساطيره في مداركهم العقلية، أن يصدق أن هنالك أدنى عداء للسامية وأخفى إيحاء بكراهية اليهود في مجرد القول بأن دولة إسرائيل لم تعد (هذا على فرض أنها كانت أصلا) دولة الناجين من المحرقة، وإنما هي اليوم أمنع قوة إقليمية في الشرق كله، وأن من يقاسون احتلالها لا يرونها من منظار المحرقة (كما ترى هي نفسها) وإنما من منظار الاضطهاد الذي تسومهم منذ عقود؟ هل يمكن لأي امرئ عادي أن يخطئ فهم هذا الكلام الذي هو تقرير مباشر لواقع معروف؟ ولكن تلك هي عبثية الوضع السائد في العالم الغربي، كلما تعلق الأمر بدولة إسرائيل. فمحاكم التفتيش بتهمة اللاسامية منتشرة في كل مكان. واللوبي الصهيوني متربص بكل من يجرؤ على إحداث أي صوت نشاز. ولن ترضى عنك محاكم اللاسامية حتى تتبع ملتها في فقه السياسة وتذكر التاريخ! ولن ترضى عنك محاكم اللاسامية أيها الإعلام حتى تصفق لإسرائيل على الدوام! ولكن حتى في هذه الحالة، أي حتى لو بلغت باجتهادك هذه المكانة العلية، فإن الشكائين البكائين سيبقون لك بالمرصاد مخافة أن تسول لك نفسك يوما أن تتهاون فتصفق بفتور أو اعتدال، حسب مقتضى الحال، ودون حماس فياض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى