وكانت لجنة الحكماء التي مشى فيها المغرب والجزائر سويا
بسبب أن الأسئلة التي أمطرها الصحفيون لم تنفذ إلى ما كان يتوخى التبشير به.. أصر الملك الراحل الحسن الثاني على أن يكون السؤال الأخير في مؤتمر استضافه القصر الملكي في الرباط، مسك الختام.
لا تنعقد المؤتمرات من هذا النوع كل يوم، لذلك يرغب الصحفيون في استشفاف الحقائق والمواقف حيال أكثر من قضية. ولا وجود لمفهوم الخروج عن النص في المؤتمرات القابلة لاستيعاب أي هموم، داخلية أو خارجية، إلا أن السقف يجري تحديده تلقائيا على مقاس الحدث. إن كان المؤتمر الصحفي عربيا تشعبت الأسئلة عن الواقع العربي، وإن كان مغاربيا يتقول أصحاب الأقلام بالمشاغل الإقليمية.
يعرف الصحفيون، من خلال التجربة، أن السؤال الذي لا يطرح هو الأهم. أحيانا لا تكون هناك ضرورة للجواب حين يكون السؤال عميقا ومتزنا وذا أبعاد موضوعية، وفي غالب الأحيان لا يشفي حرقة الاستفهام غير الإجابات البليغة التي تعكس عمق الرؤية ووجاهة الموقف.
كان الحسن الثاني فارس ميدانه في المؤتمرات الصحفية، يقابل الاستفزاز بما هو أشد قسوة، وينشرح حين يجول في الملاعب التي يعرف تضاريسها جيدا. إلا أنه، وفق أكثر من رواية، كان لا يدخل إلى قاعة المؤتمرات إلا ويكون سلاحه الكلمة التي تقنع، أو رد الفعل الذي يحبط، إذا بدا له الأمر خارج المألوف في علاقة الوقار بين السائل والمجيب.
في ختام مؤتمر قمة استثنائية هيمنت عليها أجواء المصالحة، تراجع منسوب الأسئلة الحذقة. تنبه الملك الحسن الثاني إلى الصحفي الذي كنته، فقد رفعت صوتي باسم لبنان، في إشارة إلى صحيفة «الحياة» اللبنانية التي انتدبتني مديرا لمكتبها في المغرب. فأشار إلي بطرح السؤال الأخير. لابد من الاعتراف بأن الصحفي أيضا يضيع ضربة جزاء محققة، إما بفعل ثقل المسؤولية والارتباك، أو نتيجة السباحة في عالم آخر ضد التيار.
وتعلم التجارب ممتهني الصحافة أن السؤال الذي لا يقود إلى استخلاص نبأ عاجل أو موقف قوي، ليس مهنيا بالتمام والكمال، كما أن التعبير عن موقف أو استعراض عضلات ليس من أخلاقيات البحث عن الحقيقة التي تصدر عن أفواه صناع القرار، وإن كانت نفيا أو رفضا للتعليق.
خاب ظن الحسن الثاني في ما أعتقد، لأنه كان يظن أن من يرفع يده باسم لبنان يفترض أن يطرح سؤالا حول القضية اللبنانية، غير أن ذلك لم يحدث. ولو كتب لي معاودة استرجاع اللحظة لكان أهم ما يتعين القيام به، هو القراءة المتمعنة في القرارات الصادرة عن تلك القمة، كونها المرة الأولى التي ركزت فيها على تسخير كل الجهود لمعالجة الأزمة اللبنانية التي استفحل أمدها وتداعياتها داخليا وإقليميا ودوليا.
أعلن الحسن الثاني إذن عن تشكيل لجنة الحكماء الثلاثية التي جمعته في رفقة الطريق الشاق إلى الملك فهد بن عبد العزيز والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، وعندما بدا له أن القرار الصادر عن القمة العربية الطارئة يتطلب المزيد من الشرح، دعا إلى مؤتمر صحفي مصغر، اختار له مندوبين عن الصحافة العربية.
أمام القاعة الصغيرة التي احتضنت اللقاء، لفت انتباهي أن الوزير مولاي أحمد العلوي كان في شبه شجار مع أحد الحراس، لأنه منع صحفية من «ماروك سوار» حضرت في الموعد المحدد، بمبرر أن اسمها لا يوجد ضمن قائمة المدعوين. رأيت مولاي أحمد يذعن للقرار. قال لي: «إذا حضر الماء يرفع التيمم». وتمنى علي أن أزود صحيفته بوقائع المؤتمر، لأنه تعود أن يسبق نشرات أخبار التلفزيون.
تحدث الحسن الثاني عن أزمة لبنان. وخلته يعود بالذاكرة إلى أول زيارة قام بها والده الراحل محمد الخامس إلى لبنان، الذي سيختار من بين عائلاته الكبرى من يصاهره: أسرة آل الصلح العريقة. فقد روى المؤرخ الدكتور عبد الهادي التازي أن محمد الخامس فاتحه في شأن تقاليد الخطوبة والزواج، لأنه كان يرغب في مزج الموروث المغربي بنظيره في بلاد الشام.
كما الأفراح فالمآتم والمآسي تستوجب العودة إلى العراقة. ولعل المرة الأولى التي سيبث فيها التلفزيون آيات بينات من الذكر الحكيم في تواصل يومي، على امتداد فترات الأزمة، كانت إبان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت ومحاصرة هذا البلد الصغير بجيوش جرارة، وكان المبعوث الدولي ذو الأصل اللبناني فيليب حبيب، يشكل نافذة الإطلالة على وقائع تلك المأساة.
من أجل تقديم الشكر للمغرب سيحل الرئيس اللبناني أمين الجميل بالمغرب، كأول محطة عربية له بعد اختياره خلفا لشقيقه بشير الجميل الذي عرف بقسوته وعناده وتطرفه. وبعد مرور أقل من سبع سنوات أبى المغرب إلا أن يرد على التحية بأحسن منها. وجاء تشكيل لجنة الحكماء الثلاثية التي توجت أعمالها بإبرام اتفاق الطائف، بين الفرقاء المتناحرين، تجسيدا للوفاء. لكن تركيبة اللجنة روعي فيها اختيار المحاورين، المغرب والجزائر باعتبارهما الأبعد جغرافيا وحساسية إزاء مراجع الأطراف المتصارعة، والمملكة السعودية ذات العطف المتميز على لبنان وأهله. وكانت تلك المرة الأولى التي يمشي فيها المغاربة والجزائريون على درب واحد، مطوقين بأمانة مؤتمر القمة. وفي غضون ذلك فهم على نطاق واسع أن تعاطيهم المشترك مع أزمة بعيدة، قد يخلق إحساسا بضرورة تناسي خلافات البلدين والاتجاه نحو حلها عن طريق الحوار والتفاهم.
عقود مرت على اتفاق الطائف، ولازالت أزمة لبنان تراوح مكانها. فيما أن المنطقة المغاربية، التي كانت تهفو إليها الأفئدة لدعم القضايا العربية، انكفأت على نفسها ومشاكلها.. وكأن ما من أحد يرغب في التعلم من مسارات الأحداث، بحلوها ومرها.