.. وقيل الأرض لمن يحرثها.. في الجزائر
اقترح الوزير مولاي أحمد العلوي إقامة نصب تذكاري على مشارف الحدود الشرقية بين المغرب والجزائر. وزاد إمعانا في دلالاته أن يتضمن مجسمات طماطم وبرتقال وسنابل القمح وأغصان زيتون، وأنواعا من الأسماك إن أمكن.
هل كان يجب تقدير اقتراحه، أم أن تقاليد متعارفا عليها لا تحبذ إقامة التماثيل والنصب التذكارية، إلا ما ندر. في أي حال فالغلل والفواكه عطاء يأتي على قدر زراعة الأرض وسقيها ورعاية النباتات شذبا وتهذيبا. ولا يمكن التباهي في هذا المضمار بين السهول الخصبة والمناطق القاحلة، وإن كانت منافع التكنولوجيا طوعت الصحاري والثمار المغطاة وتنقيط قطرات المياه.
لم تكن حدود الأقاليم والعمالات تحمل شعارات بمميزاتها الزراعية أو الصناعية أو السياحية. ورأى مولاي أحمد أن أفضل إشعار يجعل الزوار الجزائريين القادمين إلى المغرب يحسون أنهم في بلد مختلف، هو الإحالة على المنتوجات الزراعية. ولأن كل إناء بالذي فيه يرشح، فلا شيء يمنع من إبراز خصائص المنتوجات المحلية. بخاصة إذا كانت تجسد خيرات الأرض التي لا حدود لسخائها منذ اقترنت الحياة بوجود المياه. حتى أن الكشوفات العلمية راحت تبحث في كواكب القمر والمريخ عما يثبت تدفق المياه.
لكن الوزير مولاي أحمد ليس من النوع الذي يطلق الكلام على عواهنه، وله من وراء كل قهقهة أو نكتة أو مثل شعبي مآرب أخرى. لهذا أدرك محاوره أنه يرد بطريقة ذكية على ما تردد في كواليس اجتماع رسمي للحكومة الجزائرية، حيث سخر الرئيس هواري بومدين من المغاربة الذين قال إنهم يزرعون الطماطم، فيما بلاده شرعت في تنفيذ سياسة تصنيع ضخمة بإمكانات هائلة.
فهو يعرف الجزائر جيدا، وله جولات وصولات ورفقة طويلة مع قادتها، سابقين ولاحقين، بل إنه على إلمام بأنواع الحساسيات والحزازات. وما من شك في أنه أراد القول إن الحصول على الاكتفاء الذاتي من المنتوجات الغذائية ليس أمرا مستهجنا، في أوج الصراع بين نموذجين نقيضين لكل منهما حق اختيار ما يناسب فكره وقناعته. ومن الخطأ تعيير دولة لأنها ارتضت أن تزرع الطماطم وتحرث الأرض وتشيد السدود. والأمر ذاته ينطبق على من اختار سياسة التصنيع بوازع أن يصبح «يابان شمال إفريقيا» والعبرة دائما بالمحصول والحصيلة.
حينها قال متابعون لتطورات الأوضاع في البلد المجاور، إن نكسة «الثورة الزراعية» التي لجأت إليها الجزائر في سبعينيات القرن الماضي، كانت وراء انعطافها نحو أوهام التصنيع الذي أهدر المال والوقت دون جدوى. والمشكل لم يكن في أسبقية الثورة إياها على ما عداها، ولكن في أسلوبها وآلياتها التي سعت إلى استنساخ تجارب بعيدة عن التربة الجزائرية وخصائص المزارعين الجزائريين الذين عرف عنهم أنهم كانوا يحملون البندقية في يد لمواجهة الاستعمار الفرنسي، والفأس والمحراث في يد أخرى لفلاحة الأرض، قبل أن يخطط آخرون لما يجب أن تكون عليه الزراعة، عبر تأميم الأراضي إلى غير ذلك من محبطات الثورة الزراعية الموؤودة.
كانت الجزائر تتوفر على رصيد هائل من الأراضي الزراعية الخصبة، وكانت حقول العنب والكروم والأشجار المثمرة، من بين معطيات طبيعية وبشرية أخرى، تؤهلها لأن تكون بلدا زراعيا بامتياز. وحين بدأ الحديث عن «ثورتها الزراعية» التي أجملها البعض في أن الأرض ستصبح لمن يحرثها، فات فقهاء ومهندسي التخطيط أن تجارب التأميم وفرض الاختيارات على المزارعين واستحواذ جبهة التحرير على القرار والتنفيذ في قطاع هي أبعد ما تكون عن الإلمام به، أفقد الثورة حمولتها.
عوض أن يكون البديل موضوعيا، يستند إلى حقائق الأوضاع على الأرض، اختارت الجزائر سياسة التصنيع الضخم الذي قاده الوزير بلعيد. وعندما تنبهت إلى بوار أسواق وفرص تصدير إنتاجها الصناعي الذي شمل الجرارات والآليات التي كان يجري تركيبها داخل الجزائر، في غياب أرضية تصنيع ملائم، كان الوقت قد فات.
في غياب نظام سياسي يشجع المبادرات الحرة وينطلق من فكرة إغناء الموارد المتاحة، من غير النفط والغاز، تمتزج رائحة الطعام بنكهة البترول الذي يمكن أن يصنع الثروة، لكنه لا يصنع الدولة المتحررة من إكراهات تقلبات أسعاره وأسواقه ونضوب منابعه.
يقول علماء النفس إن الكد والتعب وبذل الجهد وحده يضفي على حالة الإنسان، ما يجعله يشعر بسعادة غامرة، حين ينجز شيئا ملموسا. وعلى عكس ذلك تماما يتملكه شعور بالضجر واللامبالاة حين لا يقوم بأي جهد في التحصيل. وكذلك هي حالة الدول والاختيارات.
عندما توالت سنوات جفاف قاسية على المغرب في ثمانينيات القرن الماضي، انتبه كثيرون إلى مزايا جانبية، همت تربية الدواجن وأحواض الأسماك والاستثمار في الإنتاج المحلي. وظل الجزائريون يسخرون من جارهم الذي يزرع الطماطم، متناسين أن الغذاء والدواء يأتي قبل غيره من الحاجيات.