إعداد وتقديم- سعيد الباز
اعتقد الإنسان منذ القديم بأن الإبداع والخلق الفني لا يأتي إلّا من وحي سماوي أو قبس روحي علوي لا يمتلك المبدع إرادة عليه، نجد أثر ذلك لدى الإغريق الذين آمنوا بوجود ربّات للفنون في جبل الأولومب… واعتبروا كلّ ما جادت به قرائح الفنانين والمبدعين مسّا إلهيا وأحاطوا عملية الإبداع بهالة دينية مقدسة.
أمّا العرب فاحتفوا بالشعر أكثر من غيره فهو كما قالوا ديوان العرب، وخاصّة في الجاهلية حيث اعتبروا قصائد شعرائهم الكبار إلهاما ووحيا من شياطين الشعر القابعين في جبل عبقر، ومن هنا تمّ نحت كلمة عبقري للدلالة على الخلق والإبداع الخارق للمألوف والمعتاد. هؤلاء الشعراء لكلّ واحد منهم شيطان يختصّ به، بل لهم أسماء وصفات تميّز شيطانا عن آخر.
هذا الاعتقاد السحري وغير العقلاني، الذي يصاحب العملية الإبداعية، جعل الكثير من الكتاب يستبطنون بشكل لا واع خوفهم من العجز عن الكتابة ومواجهة الإحساس بالشقاء الجارف والمحبط أحيانا أمام الورقة البيضاء، فيواجهونه بأساليب غير مبرّرة منطقيا لكنّها تمدّهم بالشعور بالقدرة على خوض عملية الكتابة. هذه الأساليب هي ما اعتدنا على تسميتها بطقوس الكتابة.
إرنست همنغواي.. الكتابة وقوفا
يكتب الروائي الأمريكي إرنست همنغواي (1899- 1961) Ernest Hemingway في غرفة النوم بمنزله في هافانا (كوبا) ولديه حجرة عمل خاصة معدّة من أجله في برج مربع في الركن الجنوبي من المنزل، لكنّه يفضّل الكتابة في غرفة النوم ثم يصعد إلى حجرة البرج حين تجتذبه شخصيات الرواية. وغرفة النوم واسعة ومشمسة يدخلها الضوء الذي ينعكس على حوائطها البيضاء وأرضيتها المبنية من قرميد أصفر.
وتحتوي الغرفة على خزانات كتب وسريره ومكتب عمله، وآلته الكاتبة وأوراقه وأقلام الرصاص التي يبلغ عددها خمسة أو ستة. ولدى إرنست همنغواي طقوس في الكتابة عجيبة وغريبة، فهو يقوم بإعداد أقلام الرصاص من الليل، فإذا شرع في الكتابة فإنّه يكتب بقلم الرصاص وهو واقف على رجليه منتعلا حذاء أكبر من مقاسه، ويكتب على ورق آلة كاتبة شفاف معتمدا على لوح القراءة، وحينما يبدأ يكتب وبشكل سريع فإنّه ينتقل إلى الآلة الكاتبة.
وعن أسلوبه في الكتابة وعاداته الخاصة، يقول إرنست همنغواي: «عندما يكون عندي عمل كتابي فإنّي أصحو في الصباح الباكر قبل أوّل ضوء حيث لا يوجد أحد يزعج، كما أنّ الجو هادئ، أكتب ثم أتوقف لأقرأ ما أكتب وقد أستمرّ في الكتابة حتّى الظهر أو قبل ذلك. أقوم بإعادة كتابة ما كتبته، وهذه فرصة كي أراجع ما كتبت وأصحح ما يحتاج إلى تصحيح، وقد أعدت كتابة آخر صفحة في رواية وداعا للسلاح تسعا وثلاثين مرّة قبل أن أرضى عنها. ويمكنني أن أكتب في أيّ مكان، وإن كان فندق (آمبوس موندوس) شهد كتابة عدد من أعمالي، وأعتبر أنّ الهاتف والزوار هم مدمرو العمل. إنني أعيد قراءة أعمالي حينما أحسّ بأنني لا أستطيع الكتابة كي أشحن نفسي، وبعد أن أنتهي من كتابة العمل فإنّي أضع له مئات الأسماء، لأقوم بعد ذلك بشطب معظمها، وقد لا يبقى منها شيء».
كان إرنست همنغواي يتمتع ببنية جسدية قوية، وكان بإمكانه كعادته دوما أن يُمضي ليلة صاخبة دون أن يخلف موعده الصباحي مع الكتابة، يقول عنه ابنه غريغوري: «يشرق أبي دائما في الصباح بشكل رائع، كما لو أنّه نام مثل رضيع في غرفة يعمّها الصمت واضعا غمّاضتين سوداوين على عينيه». وعن لحظة الفراغ من الكتابة وعلاقتها بما بعدها يقول: «تقرأ ما تكتبه، وكالعادة، عندما تكون على معرفة بما سيحدث مستقبلًا، يمكنك أن تستمرّ من هناك. وتشرع في الكتابة إلى أن تصل نقطة تستطيع من خلالها أن تعرف ما سيحدث بعد ذلك. لنقل إنّك بدأت في السادسة صباحًا، ويمكن أن تستمرّ إلى منتصف النهار، أو تنتهي قبل ذلك. عندما تتوقّف تشعر بأنّك فارغ، ولكنّك لست كذلك، بقدر ما أنت في إثر تعبئة ذاتك، كما لو أنّك قضيت وقتًا ممتعًا مع من تحبّ. لا شيء يمكن أن يؤذيك، لا شيء يمكن أن يحدث لك، لا شيء يدلّ على شيء حتّى اليوم التالي الذي تعيد فيه الكرّة. تكمن الصعوبة فقط، في تحمّل هذا الانتظار إلى اليوم المقبل».
نجيب محفوظ.. الكتابة بدقة ساعة الحائط
كتب الروائي المصري جمال الغيطاني في كتابه (المجالس المحفوظية) عن عادات نجيب محفوظ وطقوسه في الكتابة: «كان في قمة عطائه يكتب في فصلي الشتاء والخريف ولثلاث ساعات يوميا من العاشرة إلى الواحدة ظهرا، وفي مكتبه بمنزله في حي العجوزة ومن طقوس كتاباته أن يتهيأ للكتابة بالمشي قليلا والاستماع إلى الموسيقى وبعض الأغاني من المذياع.
وكان خلال ساعات الكتابة يتناول ثلاثة فناجين قهوة، فنجان واحد لكل ساعة تعدها زوجته من دون أن يطلب منها ذلك، ومع القهوة يدخن بشراهة. ويتحدث عن طريقة كتابته قائلا: «عندما أنهي العمل أعمل على تبيضه ثم أنتظر وقتا، ثم أعيد قراءته، وفي جميع الحالات أشعر بعدم الرضا، أشعر بالفرق بين التصور المبدئي وبين ما أنتجته فعلا، بين الطموح وما تحقق، ولكن هذا لا يؤدي إلى إلغاء ما كتبته. وحدث أن ألغيت كتابة رواية «ما وراء العشق» وهي المرة الوحيدة، فقد شعرت بعدم الرضا، فقد كنت مطمئنا إلى قسمها الأول، لكن القسم الثاني لم أشعر بالارتياح له. المقهى يلعب دورا كبيرا في رواياتي، فقد عرفته في سن مبكّرة، والشخوص التي ترتاده تتشكل منها شخوص رواياتي، وقد كتبت الكثير من أعمالي تحت تأثير حالة الحبّ، ليس من الضروري وأنا أعيش التجربة، لكن بعد مرورها، وأعتقد أنّ الأديب يبدع أفضل ما عنده وهو يحب، ولما كان حب المرأة غير متاح دائما، فقد كان حبّ أيّ شيء محلّ حبّ المرأة. إنّ التعبير عن تجربة حبّ عند الانتهاء منها يظهر كلّ أبعادها ويبرئها من التحيّز، ويساعد على خلق عمل جديد».
كان نجيب محفوظ نموذجا للكاتب الفرعوني القديم في انضباطه وعاداته التي لا يحيد عليها في أوقات مرسومة تشبه دقة ساعة الحائط. في حوار الكاتب المصري رجاء النقاش مع نجيب محفوظ الوارد في كتابه (صفحات من مذكرات نجيب محفوظ) يقول: «أعطتني حياتي في الوظيفة مادة إنسانية عظيمة وأمدتني بنماذج بشرية لها أكثر من أثر في كتاباتي، لكنّ الوظيفة نفسها كنظام حياة وطريقة لكسب الرزق، لها أثر ضار أو يبدو كذلك. فلقد أخذت الوظيفة نصف يومي ولمدة 37 سنة، وفي هذا ظلم كبير، لكنّ الوظيفة في الوقت نفسه علمني النظام، والحرص على أن أستغل بقية يومي في العمل الأدبي قراءة وكتابة، جعلتني أستغل كل دقيقة في حياتي بطريقة منظمة، مع عدم تجاهل أوقات الراحة والترفيه، وهذا في تصوري هو أثر إيجابي للوظيفة في ظل ظروف المجتمع الذي نعيش فيه، فمن المستحيل أن يتفرغ الأديب في مصر… أمدتني الوظيفة بنماذج بشرية كانت غائبة عن حياتي. فأنا أعرف الأسرة والجيران والمدرسة والجامعة والمقهى، ثم أتاحت لي الوظيفة مجالا حيويا مختلفا فعرفت نماذج جديدة لم أكن أعرفها، وعرفت مكانة الوظيفة في مجتمعنا، وكيف أنّه مجتمع بيروقراطي والقيمة الحقيقية فيه هي قيمة البيروقراطية».
من غرائب طقوس الكتابة
كانت لدى الكاتب الروسي الأصل والأمريكي الجنسية فلاديمير نابوكوف (1899-1977) Vladimir Nabokov، مؤلف الرواية الشهيرة «لوليتا»، طريقة عجيبة في الكتابة، فهو يكتب عددا هائلا من البطاقات الصغيرة بحجم كفّ اليد أشبه ببرقيات وهو مستلقٍ على الأريكة أو أيّ مكان آخر حتّى في السيارة… ثم يعود في ما بعد إلى تجميعها وترتيبها وفق هندسة معقّدة وصياغتها في شكلها النهائي كما لو كانت حلّا لمسألة من مسائل الشطرنج الذي ظلّ ولوعا به. عن برنامج الكتابة لديه يقول نابوكوف: «أستيقظ حوالي السابعة صباحا، أبقى مستلقيا في سريري أراجع وأخطّط للأشياء. في الثامنة أحلق ذقني، أتناول فطوري، أتأمّل ثمّ أستحمّ، وكل هذا بنفس الترتيب، ثمّ أبدأ العمل حتّى موعد الغداء. وقبل ذلك أخرج للمشي مع زوجتي بجانب البحيرة. نتناول الغداء في الواحدة ظهرا ثمّ أعود للعمل في الواحدة والنصف لمكتبي للكتابة حتّى السادسة والنصف. بعد ذلك أخرج من جديد للمشي والمرور على بائع الصحف ثمّ أتناول العشاء في السابعة. لا عمل بعد العشاء. الذهاب إلى السرير عند التاسعة، أقرأ حتّى الحادية عشرة والنصف وأصارع الأرق حتّى الواحدة صباحا».
من غرائب طقوس الكتابة ما نجده لدى فيكتور هيغو الذي يقضي الوقت الأوّل من اليوم في كتابة الرسائل لعشيقته قبل القيام بأخذ حمام بارد في سطيحة المنزل مهما كانت الظروف والموانع، ليستغرق بعدها في الكتابة بشكل متواصل، ومن أشهر ما روي عنه أنّ روايته المعروفة «أحدب نوتردام» كان ملزما على إتمامها في الموعد المحدد مع الناشر ممّا اضطره إلى أن يأمر خادمه بحجز ملابسه والبقاء في البيت عاريا حتّى الانتهاء من عمله.
وأخيرا قد تبدو الكراهية مصدر إلهام لتتحوّل إلى طقس في الكتابة، كما هو الشأن لدى المسرحي النرويجي هنريك إبسن الذي لا يأبه بأي طقس معيّن في الكتابة سوى وضع صورة لغريمه وعدوه اللدود المسرحي السويدي أوغست سترندبيرغ مفسّرا ذلك بقوله: «إنّما أردت أن أغيظه وهو يتفرّج على إبداعي قبل نشره على النّاس!!».
صنف من الكتّاب تستهويهم طقوس غريبة أخرى، فقد أنجزوا معظم أعمالهم الإبداعية فوق أسرّة نومهم، فهذا الكاتب الأمريكي مارك توين، صاحب رائعة «توم سوير» وأعمال أخرى، كان يفضل تمضية يومه بالكامل على سرير نومه يكتب دون انقطاع مواصلا التدخين، ولا يسمح لأفراد عائلته طوال هذه المدّة بإزعاجه، ومن الطرائف التي تروى عنه أنّ زوجته دخلت عليه يوما لتخبره بأنّ زائرا مهمّا يريد مقابلته، فأجابها بأن تسمح له بالدخول. لكنّ زوجته أشارت له بأنّ من العيب مقابلة الناس وأنت على سرير النّوم، فردّ عليها: «حسنا، فلتحضروا له إذن سريرا بجواري». مارسيل بروست أيضا كتب روايته الخالدة «البحث عن الزمن الضائع» في سريره بسبب إصابته بمرض الربو والحساسية الشديدة، وقد كان مجبرا إضافة إلى ذلك على إسدال ستائر النوافذ وتغطية الجدران بالورق والاستعانة بالمصابيح المتّقدة بالليل والنهار يخوض حربه مع تفاصيل روايته المتشابكة وأسلوبه الروائي المميّز في الكتابة مرتديا ملابس نومه، بعيدا عن صخب الخارج.
محمد شكري: الكتابة عندي تتمّ في الذهن
يتحدث محمد شكري إلى الروائي المصري يوسف القعيد في حوار معه عن طقوس الكتابة لديه: «عندي مراحل للكتابة وليست طقوسا، في الستينيات كنت أنزل في الفنادق الصغيرة. وكنت أكتب في المقاهي والحانات والمطاعم. إنّ الصخب يملأ المقاهي، حتّى لو كان زبائن المقهى يشاهدون مباراة كرة القدم. بعد الفنادق… أصبح لي بيت صغير في الحي الشعبي الذي ارتبطت به، وعبّرت عنه وهو سوق الداخل حتى إذا انتهيت من استهلاك هذه الأحياء أو هي استهلكتني. انتقلت إلى المدينة الجديدة وأنتقل من شقة إلى أخرى».
وعن طريقته في الكتابة وعاداته يجيب: «أكتب بالقلم على الورق. ليس مهما بالنسبة لي الكتابة الأولى أبدا. المهم هو عمليات التنقيح التي تتسع أحيانا أعيد كتابة العمل أكثر من مرة. وقد تستمر هذه العملية حتى والعمل في المطبعة. ولكن الكتابة الفعلية هي التي تتم في الذهن دائما يكون عندي ما يشغلني. ما أريد أن أقوله وأحيانا تظل القصة في ذهني فترة طويلة. أنام بها وأصحو وهي معي. وأتجول وهي تطنّ في أذني».
في كتاب (المعيش قبل المتخيّل، حوارات مع محمد شكري/ حسن بيريش) يتحدث محمد شكري عن طقوسه في الكتابة قائلا: «الطقوس التي كنت أكتب بها في الستينات والسبعينات، ليست هي نفسها التي أكتب بها اليوم. من قبل لم يكن لي مسكن خاص بي، كنت أسكن في فنادق صغيرة، ولذلك كنت أكتب في المقاهي، المطاعم، الحدائق، والحانات. ولأنني لم أكن مشهورا آنذاك، فقد كنت أكتب دون أيّ إزعاج. عندما عرفت الاستقرار في منزل خاص بي، منذ ثلاثين عاما، بدأت أعوّد نفسي على الكتابة داخل المنزل. واخترت طريقة محددة، هي أن أكتب في الليل وأنقّح في النهار». وعن أسبقية الكتابة في الذاكرة أو الورق يقول: «أكتب في ذاكرتي قبل أن أكتب على الورق. وعندي ذاكرتان: ذاكرة الأميين الذين لا يقرؤون ولا يكتبون ولذلك يقوون ذاكرتهم. وذاكرة المتعلمين الذين يقرؤون ويدوّنون ملاحظاتهم. وإذا أخطأت في إحداهما تسعفني الأخرى». وعن دور القراءة في حياته ومنجزه الأدبي يقول: «كما أنّ هناك حميمية في الكتابة، هناك أيضا حميمية في القراءة. أنا أقرأ أكثر ممّا أكتب، وليس ضروريا أن أقرأ كلّ يوم وعلى نحو متواصل. القراءة كما الكتابة تحتاج إلى تحفيز، إلى إحساس، وإلى رغبة. والرغبة لا تجيء كلّ يوم. هناك أيام أحسّ فيها برغبة شديدة في القراءة، وهناك أيام أضرب فيها كلية عن القراءة، لا أقرأ لمدة شهور كاملة، أمارس خلالها راحة خاصة، وأسترجع ما قرأت. وعندما ينتابني الإحساس بالقراءة من جديد أقرأ ببطء أقلّ من السابق… بالنسبة لي، نعم القراءة الكثيرة والعميقة ضرورية. أنا في حاجة دائما إلى الارتباط بالتكوين الثقافي والأدبي. لكن بالنسبة لبعض الكتاب القراءة قد لا تكون ضرورية. ربما لأنّ موهبتهم وعبقريتهم، تغطّي على الحاجة إلى كثرة القراءة»، ويضيف أخيرا: «القراءة لعبت دورا كبيرا في حياتي، لولاها لما أصبحت كاتبا، ولكنت مجرّد مهرّب، أو بائع سجائر مهربة!».