وزن الذبابة
ليست السمنة دائما دلالة على الصحة الجيدة، خصوصًا بالنسبة للأشخاص “اللي عودهم رقيق” والذين بسبب رغد العيش الذي وجدوا أنفسهم فجأة غارقين فيه أصبحوا “محنكين”.
وعندما تصبح السمنة عائقا أمام استمرار الإنسان في القيام بواجباته يصبح الريجيم ضرورة حيوية. سوى أن الريجيم يحتاج نفسا طويلا وصبرا، وهناك من هم في عجلة من أمرهم ولا وقت لديهم ويريدون “تطياح الوزن” بسرعة قبل أن يتم “بغجهم” تحت شحومهم المتراكمة.
بالنسبة لهذا النوع من السمنة هناك حل سحري جربه بعضهم وأعطى معه نتائج مذهلة، وهي عملية ربط فم المعدة بسوار. هكذا تضيق المعدة وتكتفي بالقليل من الطعام وتحرق الدهون ويخف الوزن.
هذا المثال ينطبق على حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة منذ عشر سنوات. لقد نظر الحزب إلى صورته في المرآة مؤخرًا ووجد أنه تكرش وتهلهل وأصبح وزنه يهدد حياته، ولذلك فكر في جمع قياداته في خلوة للبحث عن طريقة للتخسيس والتخلص من الدهون التي راكمها طيلة ولايتين حكوميتين جرب فيها أكلات وشهيوات لم يكن يتخيل أنه سيتذوقها ذات يوم، هو الذي تعود طيلة حياته الماضية في جحيم المعارضة على “البصائر” عوض “العصائر” “والملاوي” عوض المشاوي.
واسألوا العثماني الذي خرجت له “طحيشة”، عن الملذات التي يجلبها له كل يوم طريطور رحال إلى مقر رئاسة الحكومة وكيف طردت رائحة الوصفات والحلويات الشهية رائحة “المرقة بالخرشف” التي كانت مدام نبيلة ترسلها لزوجها بنكيران لكي يتغذى بها حتى لا يتعشوا به. لكنه رغم ذلك تعشوا به، بعدما أقنع وزير العدل آنذاك مصطفى الرميد صقور وحمائم الحزب بأن بقاء بنكيران يمكن أن يفتح عليهم أبواب جهنم، فانتهى الرجل كالجمل الأجرب يتجنبه الأصدقاء قبل الأعداء.
ومن أجل إنجاح عملية التخسيس التي يحتاجها الحزب لكي يفقد وزنه الزائد عن الحاجة ويلعب في صنف وزن الذبابة اجتمعت قيادته في خلوة بفندق بضاية الرومي للتشاور حول أنجع الوسائل، هل “الريجيم” القاسي أم ربط فم المعدة بحلقة، كما صنع الرميد وأعطت العملية نتائج لا تخفى على العين المجردة، حيث فقد سعادة الوزير الكثير من وزنه.
والحقيقة أنني لم أكن أتوقع أن مقالي المعنون “مخاض صعب” سيفضي إلى خلوة، وهو المقال الذي تساءلت فيه عن هل الفوز بالانتخابات بالنسبة للعدالة والتنمية يوافق المصلحة العليا بالنسبة للبلد في هذه الظروف الصعبة محليًا وإقليميًا ودوليًا؟
بعبارة أخرى هل من مصلحة الحزب أن يقود تجربة حكومية ثالثة وأن يبقى في الحكم لخمسة عشر سنة متتالية رغم فشله الذريع في تسيير البلد؟
ويبدو أن الحزب فهم أن وقت النزول من عربة الحكومة قد أزف، بقي فقط الاتفاق حول طريقة تحفظ ماء الوجه.
ولست أدري ما إذا كانت صورة رئيس الحكومة مع عارضة للأزياء ترتدي تنورة قصيرة على هامش الخلوة إشارة إلى أن الحزب مقبل على “تعرية” سياسية تطول طبقاته الجيولوجية الصخرية العميقة، خصوصًا وأن قضية التنورات التي هزت الرأي العام قبل سنوات وأدت إلى الاعتداء على فتاتين حدثت في سوق بإنزكان مسقط رأس سعد الدين العثماني.
وجود حزب العدالة والتنمية في الحكم منذ عشر سنوات، واحتمال عودته لخمس سنوات مقبلة هو نوع من الخسائر الجانبية un dommage collatéral للديمقراطية.
ولذلك يطرح فلاسفة ومفكرون اليوم سؤالا عميقا حول صلاحية الديمقراطية كأرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني في المجال السياسي، أي بعبارة أخرى هل تصلح الديمقراطية لكل الشعوب.
والواقع أن الديمقراطية لكي تتحقق في مجتمع ما يجب أن تتوفر لها شروطها، ولذلك لا يمكن بتاتا الحديث عن الديمقراطية في ظل وجود آفتين فتاكتين هما الأمية والفقر، لأن وجود هذين الفيروسين يشوش على نتائج صناديق الاقتراع.
فالأميون والفقراء هم الفرائس السهلة لتجار الدين وباعة الوهم، وفِي المغرب هاتان الطبقتان تشكلان جزءا مهما من النسيج المجتمعي الذي يشكل الكتلة الناخبة، والتي تمثل الخزان الأساسي لحزب العدالة والتنمية.
ولهذا يبدو الحزب الحاكم مرتاحا لفكرة تصدره لانتخابات 2021، ليس لأنه حزب ناجح في التسيير أو لأنه خلق الشغل وقلص المديونية، فالجميع يعلم أنه حزب فاشل على جميع الأصعدة، ولكنه يبدو مرتاحا لفكرة تصدره للانتخابات لأن المغاربة لا يصوتون وخصوم الحزب مرتبكون ومفككون ويترددون في خوض المعركة مخافة ترك جلودهم فيها.
ويبدو أن الوضعية الهشة التي يعيشها حزب العدالة والتنمية والانقسامات الحادة داخل النواة الصلبة لقيادته جعلته يعتبر كل صيحة سياسية عليه، تستهدف وجوده وشعبيته. لذلك بدأ الحزب منذ أسابيع حملة إعلامية مضادة لشيطنة المطالبين بحق من الحقوق الدستورية، والشروع في نسج تحالفات موضوعية لتشكيل قاعدة مناهضة للتعديلات الدستورية.
فالحزب الحاكم يدرك أن مقتضيات الدستور في صيغته الحالية، ورغم بياضاتها واتساع مناطقها الرمادية، إلا أنها مفيدة لحزب الإسلاميين وتساهم في تحكمهم بمؤسسات الدولة وتقرير مصيرها بحوالي مليون صوت. ويفهم البيجيدي أن الفصل 47 من الدستور يشكل فعليا حماية دستورية تجاه موقعه داخل المشهد السياسي.
لكن لماذا أصيب حزب العدالة والتنمية بفوبيا التعديل الدستوري؟
المؤكد أن الحزب الحاكم ليس له أي اعتراض على تعديل الدستور، وحتى إذا اعترض فإنه لا يملك سلطة إيقاف التعديلات مادام أنها مرتبطة بسياقات خارج إرادة الحزب الحاكم، لكن في الحقيقة فإن جوهر الاعتراض يقوم على الوظائف السياسية للتعديل الدستوري والتي يمكن إجمالها في الآتي :
أولا، التخوف من فتح خيارات دستورية أخرى تجعل فوزه وتصدره للانتخابات غير ذي جدوى ولا يمنحه سلطة شل الدستور وإبطال عمل المؤسسات. ففي حالة فتح الدستور لإمكانية تكليف شخصية من الحزب الثاني بتشكيل الحكومة، بعد فشل الحزب الأول خلال مهلة محددة، فهذا يعني أن الحزب الحاكم سيكون خارج الحسابات السياسية، ففي كل الديمقراطيات تصدر الانتخابات لا يمنح بطاقة بيضاء أو يقود مباشرة إلى الحكم، فهناك تحالفات وتنازلات قبل تشكيل الحكومة وتوزيع الحقائب، وأمامنا مثال انتخابات إسبانيا التي فاز بها الاشتراكيون لكنهم لن يستطيعوا تشكيل الحكومة لوحدهم وكان عليهم التفاوض مع أحزاب لا يشتركون معها نفس الأفكار.
ثانيا، الخوف من العزلة السياسية القاتلة، وهذا مكمن فوبيا البيجيدي من التعديلات الدستورية، فهو يعلم أن معظم الطبقة السياسية لا تريد العمل إلى جانبه بسبب تسلطه وهيمنته واستعلائه واستعمال أذرعه الإعلامية وانكشاريته الإلكترونية في ترهيب الجميع داخل الأغلبية والمعارضة. فمع مرور السنوات في الحكم تحول حزب العدالة والتنمية إلى كائن حزبي استحواذي غير مرغوب فيه سياسيا، ووحدها الضرورة الدستورية هي من حتمت على الفاعلين التحالف معه لتجاوز شبح الأزمات السياسية، ومن دون شك فإن تعديل مقتضيات الدستور سيظهر حقيقة الحزب الحاكم وحقيقة علاقته بباقي الفاعلين.
ثالثا، إن التعديل الدستوري سيؤدي إلى فقدان الحزب الحاكم لسلاح ابتزاز ومساومة مؤسسات الدولة التي يحسن استعمالها بعناية فائقة. فالنسخة الحالية من الفصل 47 من الدستور التي فصلت على مقاسه جعلته يتوفر على سلاح دستوري ثقيل يجعله يهدد بجر البلد إلى النفق المظلم في حالة عدم التحالف معه أو تحقيق مطالبه السياسية. وبدون شك فإن البيجيدي لن يقبل بسهولة التخلي عن سلاح وفر له تدبير الحكومة لعقد من الزمان دون أثر على أرض الواقع للسياسات العمومية التي بشر بها.
رابعا، أن التعديل سيضعف الحزب الحاكم ويقوي من تجانس الحكومة، وهاته الثنائية يرفضها البيجيدي، فالتعديل الدستوري في حالة الموافقة عليه سيساهم في ولادة حكومات سياسية متجانسة تتمتع بنوع من الاستقرار والبراغماتية في تدبير بيتها الداخلي، بيد أن هذا الصنف من الحكومة يخيف المصباح الذي يتقوى داخل التوترات السياسية، فهو حزب لا يمكن أن يعيش بدون أزمات، وجزء من شرعيته بني على حروب مع الأصدقاء والخصوم وعلى حيلة العدو الخارجي وتهديدات ما يسميه «التحكم» وممثليه، ولذلك فإن أي توجه دستوري يتوخى إنهاء التوتر سيكون على حساب شرعية الحزب الحاكم.
فهل ستجود خلوة ضاية الرومي بفكرة ملهمة تنتشل الحزب من حفرة الرمال المتحركة التي وضع نفسه فيها؟