خالد فتحي
تلخص الأعداد الغفيرة من المهاجرين التي وصلت لجزيرة لامبيدوزا الإيطالية والحصار المضروب عليها من طرف الاتحاد الأوروبي الأزمة الأخلاقية للنظام العالمي الذي لا تتفاقم الهوة بين شماله الغني وجنوبه الفقير فحسب، وإنما صارت تترجم إلى عمليات خسف ومهانة وإذلال للكرامة الإنسانية يوقعها الأقوياء بالضعفاء في مشاهد مقززة تعود بنا إلى عهود تجارة الرقيق، وذلك مع فارق بسيط لا يغير من جوهر المأساة، وهو أن الرجل الأبيض يريد هذه المرة إرجاعهم إلى موطنهم الأصلي.
من متابعتنا للجلبة التي أحدثها هذا الاكتساح للجزيرة الصغيرة، نستنبط أن الغرب لا يريد لهذه الصورة أن تدوم طويلا، ولا أن تجوب العالم، فهي تعصف بكل الهالة التي يحيط بها نفسه «كمدافع» عن حقوق الإنسان، فبالأحرى كمبشر بها في تلك الدول المستضعفة التي ينحدر منها هؤلاء المعذبون في الارض.
ولذلك كلما تعطل القرار الذي سيأخذه بشأنهم، تكشف مراؤه ونفاقه، وانفضح كيله بمكيالين وسقطت شعاراته الزائفة حتى بالنسبة للشرفاء من مواطنيه. ولذلك فالارتباك صار واضحا بشأن اختيار الطريقة الأقل ضررا التي ستتصرف بها عواصم أوروبا أمام هذه المعضلة القديمة- الجديدة، والتي تجري أطوارها المخزية، هذه المرة، على مرأى من العالم الذي تخطب فيه ولاءات الشعوب من طرف الدول العظمى.
أول الأمثلة على هذا الارتباك، هناك أولا هذا الفزع الإيطالي مما عد غزوا من تونس، والذي جعل روما تستعد لإعلان حالة الطوارئ، خصوصا أن طلب الغوث من شقيقاتها الأوربيات، أظهر لها أنهن لسن كعادتهن على قلب رجل واحد. وأنهن غير متحمسات ولا يرغبن في أن يقاسمنها وافدين غير مرحب بهم، بل وأكثر من كل ذلك ساءها سعي بعضهن لتحويل الأزمة الى رهان انتخابي يدر عليهن بعض الغنائم في الانتخابات الأوربية المقبلة.
وثاني الأمثلة موقف وزير الداخلية الفرنسي الذي يداعب خياله حلم الرئاسة، والذي اهتبل هذا الوضع الاستثنائي ليؤكد رؤيته المناهضة للهجرة، ثم لا نلبث نجد ثالثا هذا الامتعاض العام للعديد من العواصم التي تتحلل من أية مسؤولية تضامنية، بل ومنها من تسارع إلى طلب دعم من بروكسل تقايض به تخليها عن تلكئها وممانعتها.
تبدو أوروبا، بتخبطها هذا، مصرة على أنانيتها، سادرة في نهجها القديم، ممعنة في شرودها كلما تعلق الأمر بحقوق غير الأوروبي، وغير مبالية بأوجاع العالم الثالث التي كانت سببا رئيسيا فيها.
هي لا تفهم أو تتجاهل أن لا أحد يسعى إلا مجبرا للرحيل عن وطنه، فأوروبا هي التي نهبت دول إفريقيا بالأمس، وهي التي تسلب منها خيرة كفاءاتها وأدمغتها اليوم كي تقنع من التنمية بالتبعية لها، وهي من تفرض نظاما ماليا دوليا ظالما، وتتدخل في شؤون الدول والمجتمعات، وتزرع بشتى الطرق نخبا متواطئة تمالئها وتؤبد استغلالها لمستعمراتها القديمة. هي من يعرقل استتباب الديمقراطية ويحاسب أيضا على غيابها، وهي من تستحث مجيء الحكم السلطوي بها كشكل من أشكال ردة الفعل ضد الاستعمار الجديد. هي من لوث الأرض والسماء والبحر، وأزرى كذلك بالمناخ الذي يولد مثل هذه الهجرات.
وبما أن المناسبة شرط، أعتقد أنه يتعين على دول الاتحاد الأوربي، قبل أن تختار الصيغة التي ستواجه بها هذه الجحافل من المهاجرين، أن تطلع على خطاب ألقاه الرئيس الغاني نانا إكوفو آدو بالأمم المتحدة منذ أيام كي تستوعب رؤية الآخر وما يعتمل بدول الجنوب وإفريقيا من تطلعات ومطالب صارت تأخذ طابعا جذريا. إذ قبل أن تفكر بإعادة هؤلاء الهاربين من الظروف المزرية ببلدانهم، عليها أن تعيد ما نهبته منها خلال عقود إمبرياليتها التي صارت تتلفع اليوم بلبوس الخطابات البراقة لحقوق الإنسان.
الرئيس الشجاع ذكر أوربا والغرب بفضيحة الاتجار بالبشر التي شيدت فوقها كل هذه الحضارة الملطخة بدماء وعرق الأفارقة الذين تريد أوروبا بكل صلافة طردهم من بلاد ساهم في بنائها أجدادهم.
ليست قضية لامبيدوزا إلا عارضا ومظهرا من مظاهر الظلم التاريخي الذي يرعاه النظام الدولي الذي أسس بعد الحرب العالمية الثانية، والذي أعطى لكل القارات حق النقض باستثناء إفريقيا، ولذلك ليس مفاجئا أن يكون الأفارقة هم ضحايا الهجرة الأولون ما داموا يمثلون المنسيين في هذا العالم.
خطاب الرئيس الغاني هو مرافعة عن المحاصرين بلامبيدوزا، وعن إفريقيا برمتها التي ينبغي لها كما قال أن تطلب جبر الضرر من شرور التاريخ. إنه خارطة طريق قصد تحقيق الإنصاف العالمي حتى لا تتكرر مثل مأساة لامبيدوزا التي تدين الغرب أولا واخيرا، وحتى تستنبت التنمية في إفريقيا بسواعد أبنائها وبخيراتها.
لكم تذكرني مفارقات نهب أوروبا المستمر لإفريقيا، وإصرارها على الإمساك بخيوط السلطة فيها كلما لاحظتها تتحرر أو تتقارب مع قوى غير غربية، وموت الأفارقة في عرض البحر قاصدين إياها، ببيت للمتنبي قد يصلح ليلخص النفاق الغربي:
جوعان يأكل من زادي ويمسكني – حتى يقال عظيم القدر مقصود.