وراك غرقتينا
كل من يقول الحقيقة عارية بدون مساحيق لرئيس الحكومة يعتبره هذا الأخير متشائما ومتحاملا وعضوا في جوقة خصوم تجربته الحكومية.
ويبدو أن رئيس الحكومة مدعو للاقتداء بفكرة طالما رددها الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، الذي كان يقول: «أحيانا من الأفضل أن يكون الإنسان متشائما فهذا يجنبه الغرق في النوم العميق».
عندما قال الحليمي، المندوب السامي للتخطيط، إن نمو الناتج المحلي الإجمالي في المغرب من المتوقع أن يتباطأ إلى 2.6 في المائة في 2016 من مستوى متوقع 4.3 في المائة في 2015، اعتبر رئيس الحكومة هذه التوقعات ضربا من التشاؤم.
أما عندما قدم والي بنك المغرب أمام الملك التقرير السنوي للبنك المركزي حول الوضعية الاقتصادية والنقدية والمالية، برسم سنة 2014، فقد نبه إلى ارتفاع البطالة، إذ لم يتجاوز عدد المناصب المحدثة 21 ألف منصب، وهو ثاني أدنى مستوى تم تسجيله خلال السنوات الأربع عشرة الأخيرة. أما القطاع الصناعي فقد شهد فقدان 37 ألف منصب، وهو الأكبر منذ سنة 2009، دون أن نتحدث عن وصول 37 ألف مقاولة إلى حافة الإفلاس.
طبعا لم يعلق رئيس الحكومة على تقرير والي بنك المغرب، لأنه يعرف أن التقارير التي ترفع إلى الملك لا تحتمل الخطأ أو الزيادة أو التهويل.
ورغم هذه الصورة القاتمة، فإن رئيس الحكومة يظل المتفائل الوحيد في هذه البلاد، فالحليمي متشائم والجواهري متشائم والصحافة متشائمة ومدراء 37 ألف مقاولة متشائمون. وحده بنكيران وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي متفائلون بالمستقبل الواعد للاقتصاد المغربي، وقد رأينا أين قاد تفاؤل هذين البنكين اقتصاد دولة أوربية اسمها اليونان، فبسبب إغراقها في الديون من طرف هذين البنكين من أجل اقتناء أسلحة الحلف الأطلسي، ها هي اليوم تغرق في الإفلاس.
اليوم في المغرب النقاش العمومي الأهم، والذي لا يريد أحد فتحه، ليس هو نقاش «الصايات» و«التحول الجنسي»، بل هو حجم المديونية، التي أصبحت تبتلع ثلث الناتج الداخلي الخام.
إننا سائرون نحو النموذج اليوناني بخطى ثابتة، فالتفاؤل الغبي لرئيس الحكومة سيقودنا إلى كارثة اقتصادية ومالية حقيقية، خصوصا إذا عاش المغرب، لا قدر الله، موسما فلاحيا جافا السنة المقبلة.
وهنا لا يجب أن نغتر بشهادات حسن السيرة والسلوك المالي التي يحصل عليها المغرب بين وقت وآخر، فهي ليست سوى سم في دسم. فهي ستغري الحكومة بالحصول على قروض من البنوك الأجنبية، بمعنى أن المغرب سيخصص جزءا من عائدات صادراته وميزانيات الاستثمار العمومي لتسديد أقساط هذه الديون. لنفترض أن صادرات المغرب ستعرف مزيدا من العجز وأن الموسم الفلاحي عاش جفافا، من أين سيأتي المغرب بالمال لتسديد قروضه يا ترى؟
طبعا، سيخرج رئيس الحكومة شهادات حسن السيرة والسلوك المالية ببلاهة وسيذهب إلى البنوك الأجنبية لاستدانة المال الذي سيسدد به القروض المتراكمة. وهذا بالضبط ما تعيشه الطبقة المتوسطة في المغرب، فمن فرط الديون أصبحت العائلات تستدين من أجل دفع أقساط الديون، وأصبحت هناك بنوك تقترح على المواطنين الغارقين في الديون شراء ديونهم منهم بقروض تترتب عنها فوائد كبيرة. وهكذا عوض أن يظل المواطن مدينا لعدة جهات فإنه يصبح مدينا لجهة واحدة تمتص دمه إلى نهاية حياته.
ومأساة هذا المواطن الغارق في ديونه هي أنه يعيش العجز في أسوأ تجلياته، فهو بسبب الديون التي تقيده عاجز عن الاحتجاج للمطالبة بتحسين وضعيته المادية خوفا من الطرد من العمل وانتهائه في السجن بسبب ديون البنك المتراكمة، وعاجز عن اتخاذ أي قرار يهم حياته العائلية بسبب خوفه من الطرد من البيت الذي يدفع أقساطه للبنك، وعوض أن يطور حاسة القناعة فإنه يطور حاسة الطمع والجشع لكي يستطيع تأمين مصاريف وصوله إلى نهاية الشهر.
وكذلك الشأن بالنسبة إلى الدولة التي ترهن حاضرها ومستقبلها في يد البنوك الأجنبية، مثل اليونان التي انتهت إلى الإفلاس. فبسبب المديونية الخارجية، تصبح الدولة لقمة سائغة في يد الدائنين ويصبح طموحها الاقتصادي خاضعا للشروط والإملاءات الأجنبية. وهذا، للأسف الشديد، هو الاتجاه الذي أخذتنا إليه الحكومات السابقة وغالت فيه الحكومة الحالية بعيون مغمضة.
وأمام هذه الوضعية المالية والاقتصادية الخانقة، لا يبدو أن رئيس الحكومة لديه من خيار آخر غير «السعاية»، لأن التعويل على عائدات الضريبة كما هي اليوم للخروج من النفق ليس هو الحل، خصوصا إذا عرفنا أن 75 بالمائة من عائدات الضريبة على الدخل مصدرها رواتب الموظفين العموميين، فيما 13 بالمائة فقط من هذه الضريبة تأتي من القطاع الخاص، مما يعني أن 53 بالمائة من الموظفين لا يؤدون الضريبة على الدخل، ليس لأنهم يتهربون من دفع هذه الضريبة، وإنما لأنهم يتقاضون رواتب لا تصل إلى 2500 درهم في الشهر.
أما الضريبة على الشركات فهذه هي الطامة الكبرى، هل تعلمون أن 2 بالمائة من الشركات هي التي تدفع 80 بالمائة من مجموع الضريبة على الشركات التي تستخلصها إدارة الضرائب؟
نحن في بلد 65 بالمائة من شركاته تعلن نهاية كل سنة حصيلة سلبية، وبذلك تعفي نفسها من دفع الضرائب. والمصيبة أن هناك شركات تعلن منذ ثلاثين سنة حصيلة سلبية ومع ذلك تستمر في العمل، كيف؟ الله أعلم.
لو كان رئيس الحكومة يملك خطة واضحة لتدبير موارد الدولة وتحصيلها، لكان عمل على إجبار 65 بالمائة من الشركات على إعلان أرباحها الحقيقية ودفع ضرائبها، عوض أن يغلق عينه على هذا المنكر ويكتفي بـ«ترياش» الشركات التي تشتغل في إطار الشفافية والوضوح، وإذا استمر هذا «الترياش» فإن 2 بالمائة من الشركات التي تدفع للدولة 80 بالمائة من مجموع الضرائب على الشركات ستبدأ في إعلان حصيلة سلبية نهاية السنة للإفلات من دفع الضرائب، «وديك الساعة شوف منين تجمع الضريبة».
المصيبة أن رئيس الحكومة، ومعه الطبقة السياسية، مشغولون كليا بالاستحقاقات الانتخابية، فعوض أن يعلن عن توظيف المئات من مفتشي الضرائب ومفتشي الشغل لتحصيل الضريبة وإجبار أرباب المقاولات والشركات على تسجيل مستخدميهم في صندوق الضمان الاجتماعي، نسمعه يعد المغاربة بأنه سيرفع عدد مرشحيه لاستكمال مسلسل إنقاذ المغرب «تا إلى كان هاد الشي اللي كادير هو إنقاذ المغرب، الإغراق كي داير عندكم»؟
إن مشكلة المغرب ليست هي عدم وجود موارد مالية، بل عدم استخلاص هذه الموارد.
وهناك اليوم حاجة حيوية ومصيرية لتطوير عمل مفتشية الضرائب والجمارك والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وكل المؤسسات التي عهد إليه القانون باستخلاص أموال الدولة والجبايات والغرامات.
إذا كان رؤساء البلديات مستهترين في ما يتعلق باستخلاص الضرائب المقدرة بالمليارات، وتسجيل ذلك كل سنة في الحساب المالي ضمن بند «الباقي استخلاصه»، علما أن بعض المكلفين باستخلاص هذه الضرائب يكونون قد استخلصوا «قهيواتهم» لأنفسهم مقابل التغاضي عن استخلاص الضرائب للدولة، فإن المؤسسات العمومية المكلفة باستخلاص الضرائب والاشتراكات الشهرية مجبرة على التعامل مع هذه المهمة بأقسى وأقصى درجات الحزم، لأن دولة كالمغرب تعيش على عائدات الضرائب لا يمكن أن تستمر في التمويل العمومي لقطاعاتها بدون استخلاص صارم وعادل لهذه الضرائب.
الرأسمال الوحيد المتبقي لنا في المغرب، والذي تم توفيره، هو الأمن والاستقرار في عالم يسكنه الرعب والخوف والإرهاب، وهذا طبعا بفضل يقظة الأجهزة الأمنية التي لا يد لبنكيران عليها، لحسن الحظ.