وداعا للحروب والجيوش التقليدية
فيصل القاسم
هل انتهت الحروب كما كنا نعرفها سابقا؟ هل أصبحت الجيوش لحالات الضرورة القصوى؟ يبدو أن القوى الكبرى وحتى المتوسطة بدأت تسير على النهج الأمريكي الذي وضعه الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، عبر ما يسمى «عقيدة أوباما»، فقد ولى على ما يبدو عصر حروب الجيوش بعدما تعلمت أمريكا الدرس أولا في فيتنام، وثانيا في أفغانستان وثالثا في العراق. ولعل الدرس الأهم الذي دفع الإدارة الأمريكية بقيادة أوباما هو الحرب الخاسرة التي خاضتها أمريكا في أفغانستان والعراق، حيث وصلت الخسائر البشرية إلى معدلات مهولة، ناهيك عن الخسائر المادية التي لم يسبق لها مثيل في الحروب التاريخية.
وبعد مغامرات جورج بوش الابن التي أوجعت أمريكا بشريا وماديا، بدأ التفكير جديا بوضع استراتيجيات جديدة لتحقيق المصالح العسكرية الأمريكية في العالم، وأول ما تفتق عنه ذهن أوباما أن على أمريكا عدم الزج بقواتها وجنودها في أي معركة إلا بالحدود الدنيا جدا، والاعتماد بدلا من ذلك على مبدأ القيادة من الخلف عبر استخدام قوات الآخرين، سواء كانت مرتزقة أو حلفاء. وقد ظهر ذلك جليا في التدخل الأمريكي في سوريا، فعدد القوات الأمريكية التي ترابط على الأرض السورية منذ بدء الثورة ضئيل للغاية لا يتعدى الألف أو أكثر قليلا، لأن الأمريكيين باتوا يعتمدون على السوريين، سواء كانوا جيشا حرا أو ميليشيات كردية للحفاظ على المصالح الأمريكية بسوريا.
لاحظوا الآن أن منطقة شرق الفرات الغنية بالنفط والحبوب والمياه التي تسيطر عليها أمريكا، تخضع عمليا للنفوذ الكردي الذي بات اليد الأمريكية الضاربة في سوريا، وعندما يتعرض الأكراد للخطر تلجأ أمريكا إلى حمايتهم جوا عبر طائراتها العملاقة وصواريخها الموجودة على متن الحاملات الأمريكية. كم عدد الأمريكيين الذين سقطوا في الحرب السورية؟ قليل جدا مقارنة بعدد الذين سقطوا قبل ظهور عقيدة أوباما في أفغانستان والعراق، لماذا، لأن أمريكا باتت تعتمد على الحروب بالوكالة، فهي تستخدم الآخرين كوقود لمعاركها، بينما تترك جنودها لحالات الضرورة القصوى فقط. وحتى قواعدها المنتشرة في عموم المنطقة فهي للردع أكثر منها للحروب التقليدية.
حتى روسيا المعروفة بأنها لا تعير اهتماما يذكر للخسائر البشرية مقارنة مع الأمريكيين والأوروبيين، بدأت تنحو المنحى الأمريكي نفسه، وقد لاحظنا في الفترة الأخيرة بروز شركة عسكرية روسية شهيرة معروفة باسم «فاغنر»، ومهمتها تجنيد المرتزقة لخوض المعارك الروسية هنا وهناك. وقد برز اسم «فاغنر» في سوريا، حيث قاتلت جماعات المرتزقة الروسية إلى جانب الجيش السوري والميليشيات الإيرانية المرتزقة، بدل توريط الجيش الروسي في الحرب. صحيح أن لدى روسيا قاعدة عسكرية ضخمة في سوريا في «حميميم»، لكن أهدافها استراتيجية وردعية أكثر منها حربية. ولا ننسى أن «فاغنر» الروسية حاربت أيضا في ليبيا إلى جانب قوات حفتر، كذلك ذهب مقاتلوها إلى فنزويلا. وهناك الآن في سوريا فيلق روسي معظم مقاتليه من السوريين، لكن بتوجيه وقيادة روسية. بعبارة أخرى، فإن روسيا تحقق مصالحها العسكرية والاستراتيجية بسوريا على أشلاء السوريين أنفسهم، دون أن تضحي بجندي روسي واحد.
ولم يعد الأمر محصورا بالقوى الكبرى كأمريكا وروسيا، بل بدأت تمارسه القوى الإقليمية في المنطقة، فلا ننسى أن إيران لا تشارك في الحرب السورية عبر جنودها، بل عبر الميليشيات الشيعية غير الإيرانية التي جندتها من العراقيين والسوريين واللبنانيين والأفغان والباكستانيين. وتبقى مهمة الضباط الإيرانيين في الاستشارات والتخطيط، بدل الانخراط بشكل مباشر في الحرب على الأرض. وحتى في اليمن تعتمد إيران على الميليشيات الحوثية في صراعها مع بقية القوى المنخرطة في الأزمة اليمنية، وكذلك في لبنان عبر حزب الله. بعبارة أخرى، فإن إيران تغزو المنطقة ليس بجنودها، بل بالميليشيات الطائفية التي استطاعت أن تشكلها من سكان المنطقة ذاتها.
ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى تركيا، فقد أصبح لها الآن جيش سوري يأتمر بأوامرها لحماية مصالحها في المنطقة. ويبلغ تعداد ما يسمى الجيش الوطني السوري آلاف الجنود، وهم جميعا تحت إمرة تركيا. وقد لاحظنا أن بعض معارك الجيش الوطني كانت ضد الجماعات التي تهدد أمن تركيا، كالميليشيات الكردية في شمال سوريا. ولا ننسى أيضا أن تركيا واجهت النظام والروس في إدلب والشمال عموما بميليشيات سورية شكلتها لخوض المعارك من خلالها، بدل استخدام جيشها الوطني إلا بنسبة محدودة.
لاحظوا أن كل المتصارعين على الأرض السورية والعراقية واليمنية والليبية وغيرها لا يحاربون بجيوشهم، بل بأشلاء العرب أنفسهم. كلها حروب بالوكالة، حسبما وضعه أوباما في عقيدته الشهيرة. والسؤال الأخير: إلى متى يبقى العرب مجرد وقود حروب وعلى أرضهم؟ إلى متى يبقون في محل مفعول به بدل أن يكونوا في محل فاعل كبقية اللاعبين الدوليين والإقليميين على أراضيهم؟
في اليمن تعتمد إيران على الميليشيات الحوثية، وكذلك في لبنان عبر حزب الله. إن إيران تغزو المنطقة ليس بجنودها، بل بالميليشيات الطائفية التي استطاعت أن تشكلها من سكان المنطقة ذاتها