شوف تشوف

الرأي

وحش يفترس حمامة الصحافة

مالك التريكي

مليون نسخة! كان هذا سحب آخر عدد من جريدة «آبل ديلي» في هونغ كونغ. انتظر الناس في طوابير لساعات طويلة من الليل حتى يضمنوا الحصول على نسخة من آخر عدد من الجريدة التي ظلت، منذ إنشائها عام 1995، شوكة في حلق سلطات بكين. كانت الجريدة المفضلة لدى الشباب والشرائح الشعبية، ولدى الهونغ كونغيين المقيمين خارج البلاد، حيث إن كثيرا منهم لم يكن يكتفي بزيارة موقعها على الإنترنت، بل يحرص على الذهاب إلى الأكشاك في لندن ونيويورك وبرلين، الخ لشراء النسخة الورقية. إلا أن قانون الأمن القومي الذي سن العام الماضي بهدف تجريم جميع أنواع النقد والمعارضة وإرجاع هونغ كونغ إلى بيت الطاعة الصيني، قد أتاح لبكين فرصة الانتقام النهائي بعد سلسلة من التضييقات الكيدية (حيث تعرضت الجريدة إلى 56 ملاحقة قضائية، بمعدل قضيتين كل عام من عمرها!). فصدر القرار بحظر الجريدة بعد اعتقال مؤسسها رجل الأعمال الناجح جيمي لاي، وخمسة من مسؤولي تحريرها، بتهمة التواطؤ مع قوى أجنبية.
اقتحم جيمي لاي عالم النشر والصحافة في أعقاب الصدمة التي خلفتها مذبحة ساحة تيانامان عام 1989. وقد دأب مواطنو هونغ كونغ على إحياء ذكرى تيانامان كل عام، لكن السلطات منعتهم من ذلك هذا العام. وكانت «آبل ديلي» تطبع، في التسعينيات وأوائل الألفية، ما بين 200 ألف و400 ألف نسخة. وقد ثبتت بالمرصاد لسلطات هونغ كونغ وشرطتها تنقد أخطاءها وتفضح انتهاكاتها، فأدت تحقيقاتها إلى إسقاط عدد من الوزراء. كما أنها ساندت انتفاضات المجتمع المدني في 2003 و2014 و2019، ولم تزد مع مرور الزمن إلا مناوأة ومقتا للحزب الشيوعي الصيني ومثابرة على التشهير بتجاوزات كبار مسؤوليه. وليس أدل على ترسخ ثقافة الحريات لدى مواطني هونغ كونغ من قول أحد صحافيي «آبل ديلي»: «إنه لمما يدعو إلى الرثاء أن تغلق جريدة على هذا النحو. المفترض ألا تضطر أي جريدة للإغلاق إلا إذا هجرها القراء، ولكن ليس لأن حكومة قصية (يقصد بكين) لا يروق لها ما ننشر»؛ بينما قالت زميلته إن «زوال «آبل ديلي» يعني أنه لن يكون في وسعنا معرفة ما يجري حوالينا. من هنا فصاعدا ستسير هونغ كونغ في ظلام دامس».
هكذا انتصر وحش الاستبداد على حمامة الصحافة نصرا بائسا شائنا، نصرا بلا فروسية ولا شرف.
وبما أنه صار لدينا في البلاد العربية مثقفون وتكنوقراط وسياسيون يبشرون بهذا النموذج الصيني، بزعم أن علينا الاقتداء بالناجحين الممتلكين لناصية المستقبل، فقد وجب السؤال: وهل جربت الدول العربية منذ ستة عقود أو سبعة شيئا آخر سوى الاستبداد بجميع أطيافه، من التسلطية الأبوية أو القبلية إلى الديكتاتورية الفردية أو الحزبية؟ أما إذا كان الأمر يتعلق بالأداء الاقتصادي حصرا، فما الذي منع أنظمة الاستبداد العربي من النجاح الاقتصادي؟ هل كانت هنالك تعددية حزبية أو أي شواغل برلمانية أو حريات وملهيات ديمقراطية تعرقل وحدة المجهود الوطني؟ ألم تكن مصر وتايوان، مطلع الستينيات، متكافئتين في مستوى التصنيع والتنمية الاقتصادية؟
أما إذا كان الأمر يتعلق بعلوية الشعور الوطني أو القومي على القيم السياسية، ورجحان وحدة الصف على اعتبارات التمايز في مجال الاختيارات المجتمعية الكبرى، فليشرح لنا هؤلاء «الصينيون العرب» لماذا يستميت مواطنو تايوان في الحفاظ على سيادة دولتهم الصغيرة واستقلالها عن دولة الصين الشعبية؟ ولماذا يستميت مواطنو هونغ كونغ في الحفاظ على مبدأ «بلاد واحدة، ونظامان»؟ أي لماذا يكافحون للحفاظ على ليبرالية النظام السياسي والقانوني الذي ورثوه عن الحكم البريطاني والذي كان الحفاظ عليه، حتى عام 2047 على الأقل، شرطا قبلت به الصين منذ عهد دنغ كسياوبنغ؟ أليس سكان تايوان وهونغ كونغ صينيين قوميا وثقافيا؟ أليسوا جزءا من الأمة الصينية والحضارة الصينية؟
سبب استماتة مواطني تايوان وهونغ كونغ ضد حنان الأخ الأكبر في بكين سبب بسيط: هو أنه إذا أتيح للشعوب الاختيار بين الحرية والاستبداد، فإنها لا يمكن بأي حال أن تختار إلا الحرية. هذا في مطلق الأحوال. إلا أن هذا الاختيار يصير حتما لا مناص منه إذا سبق للشعب المعني أن جرب الحرية تجربة فعلية، ثم صار يشعر بأن هنالك مخاطر تحدق بحريته وأعداء يتربصون بها. إذ يكفي أن يتذوق الشعب طعم الحرية، وما يقترن بها من قيم الكرامة والإرادة والميز بين الصدق والكذب، حتى تصير الحرية (هذه القيمة النبيلة النفيسة التي يجهل الاستبداديون أنها قيمة إنسانية، قبل أن تكون سياسية) أعلى عنده وأغلى من مجموع هاتيك السيمفونيات العظمى: الأمة والوحدة والمصير المشترك والأخ القائد والزعيم الضرورة، ولا صوت يعلو فوق صوت.. المسخرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى