شوف تشوف

الرأي

وثيقة استسلام لا خطة سلام

عبد الباري عطوان
صفقة القرن في صيغتها المعلنة هي تقديم عرابها ترامب وتابعه نتنياهو وثيقة استسلام للشعب الفلسطيني وقيادته، تتضمن اعترافا بالهزيمة، والرضوخ بالكامل لشروط المنتصر الإسرائيلي، وعدم توقيع هذه الوثيقة يعني القمع والحصار، وربما الترحيل إلى الأردن، الوطن البديل. إننا أمام صيغة قديمة مجددة للنظام العنصري في جنوب إفريقيا الذي حاربه العالم بأسره، ونجح في إسقاطه، يكون نصيب الفلسطينيين فيها «غيتو» من الكتل السكانية ذات الكثافة العالية يتكون من بضعة «بانتوستانات» في ثلاث مناطق، المِنطقة ألف، المِنطقة ب، وبانتوستان غزة، ويكون الأمن ومصادر المياه والأجواء كلها تحت سيطرة الحكومة الإسرائيلية، ليس من خيار للفلسطينيين غير الأكل والشرب والنوم وخدمة الاحتلال كعبيد. عندما يتحول المسجد الأقصى إلى جبل الهيكل، والقدس كلها داخل الجدار إلى عاصمة للدولة العبرية، التي يجب على الفلسطينيين الاعتراف بيهوديتها، ويتم إلغاء حق العودة، وضم المستوطنات وغور الأردن، وانخراط أكبر للسلطة في محاربة «الإرهاب» الفلسطيني، ونزع سلاح قطاع غزة، فإنه من حق نتنياهو أن يحتفل، ويعتبر يوم إعلان صفقة القرن أعظم لحظة في حياته، بل أعظم من إعلان قِيام دولة «إسرائيل» عام 1948، فقد حصل على أكثر مما كان يحلم به.
قبل أن نلوم العرب علينا أن نعترف نحن الفلسطينيين بأن إذعاننا وارتكابنا أخطر رذيلة وخطيئة غير مسبوقة في التاريخ، أي تحول 40 ألفا منا إلى جواسيس وحراس للمستوطنين، هو الذي أوصلنا إلى هذه النتيجة، ونحن نتحدث هنا صراحة عن السلطة التي تدعي تمثيلنا، وتنازلت عن 80 بالمائة من الأرض الفلسطينية، من أجل أن تنعم بالمناصب، وبطاقات كبار الشخصيات، والسيارات، والفلل الفارهة. هناك رفض واضح من قبل هذه السلطة وفصائل فلسطينية أخرى لهذه الصفقة، ولكن الرفض يبدو «سهلا»، إذا لم يترجم إلى خطوات عملية لمقاومة الاحتلال بالطرق كافة، وليس بالذهاب إلى الجامعة العربية، وتوسل العطف في العواصم الأوربية والمنظمات الدولية.
تغيير مهام السلطة الذي وعد به الرئيس عباس لا يجب أن يكون المزيد من التسول واستجداء المفاوضات، وتكرير أسطوانة قرارات الشرعية الدولية، وإنما بإشعال فتيل المقاومة، وتثوير الشعب الفلسطيني، وإعادة الأمور إلى المربع الأول، أي شعب يقاوم الاحتلال، وحل السلطة، وإنهاء التنسيق الأمني، وإلغاء كل ما ترتب عن اتفاقات أوسلو، والاعتراف بالفشل، والانسحاب وترك الشعب الفلسطيني يقود مصيره. النظام العنصري الأبيض الذي أرادت إدارة ترامب إحياءه في فلسطين بطلب إسرائيلي، جرى إسقاطه بالمقاومة، والنظام العنصري الإسرائيلي القديم المتجدد لا يمكن أن يسقط إلا بالأسلوب نفسه.
صفقة القرن ستسقط حتما، مثلما سقط الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة، وقبله نظيره في جنوب لبنان، ولكن هذا السقوط لن يتم إلا بالمقاومة بأشكالها كافة، وليس بنهج سلطة رام الله الاستسلامي، وحمايته للأمن الإسرائيلي في أسوأ وأحقر سابقة في تاريخ الثورات في العالم. الشعب الفلسطيني بات أمام مفترق طرق هو الأخطر في تاريخه، فإما التنازل عن الأرض والعرض والكرامة وقبول رشوة الـ50 مليار دولار المسمومة التي سيحلبها ترامب من البقرات العربية السمان، كثمن لفلسطين، وما أرخص هذا الثمن المهين، أو الانتصار لقضيته ومقاومته هذه المؤامرة مثل كل الشعوب الأخرى، والمقاومة حق كفلته كل القوانين الدولية، وحررت أكثر من 170 دولة عضو في الأمم المتحدة. أين الإمبراطورية البريطانية التي لم تغب عنها الشمس، أين الإمبراطورية الفرنسية التي احتلت معظم إفريقيا، كيف انتهى التدخل الأمريكي في فيتنام والسوفياتي في أفغانستان؟ أرجوكم، لا تحدثونا عن موازين القوى واختلالها لصالح الأعداء، فهذه ذريعة المتخاذلين المهزومين. نحن نعيش حاليا المرحلة الثانية من بناء إسرائيل العظمى، فقد باتت كل فلسطين تحت حكم الصهيونية، والخطوة الثانية ضم الأردن، وبعدها العراق ومصر والسعودية، الأمر الذي يجب أن يوحد كل العرب والمسلمين في مواجهة هذا الخطر، وحتى لا يكون الشعب الفلسطيني هو الثور الأبيض.
اليوم يطالبون بتعويضات بأكثر من 250 مليار دولار عن أملاك اليهود العرب، وغدا سيطالبون بتريليونات الدولارات ليهود خيبر وبأثر رجعي لأكثر من 2000 عام، نقول هذا للمتخاذلين الذين أيدوا الصفقة، وحضروا مهرجان إعلانها مصفقين، وتعهدوا بتمويلها في مؤتمر البحرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى