منذ أكثر من ثلاثين سنة وأنا أبحث في مشكلة العنف. وكتبت على الأقل أربعة كتب في هذا الموضوع، وعشرات المقالات. وفي عام 1993م دعيت إلى مؤتمر التعددية في فيرجينيا، فكانت الساعة الأولى التي تحدثت فيها هي مشكلة العنف في العمل الإسلامي. ويومها تحدثت مع الأخ عبد الحميد أبو سليمان ونبهته إلى المخاطر، ولعله يذكر بعضا مما قلت له يومها، فقال: علينا من الهجوم الكفاية، فلا نريد الزيادة.
وفي جريدة «الرياض» بين عامي 1993م و1999م، كتبت عشرات المقالات حذرت فيها من العنف، وأن اللقاحات النوعية لم توزع كما يحدث في تعميم لقاحات شلل الأطفال والحمى الشوكية والتهاب الكبد الوبائي. والعنف والإرهاب اليوم وباء عالمي.
وعندما أتكلم في بعض الفضائيات العربية يسارعون لإخماد أنفاسي، قبل أن تنطلق بالأفكار. والأفكار تختنق باختناق الكلمات. ولعلي أنا وجودت سعيد انفردنا في هذا النشاز، فدعونا إلى تأسيس تيار اللاعنف.
غير أن هذه الأفكار غير مقبولة من الفكر الديني التقليدي، لأنها تعطل الجهاد بزعمهم، كما تحارب من الفكر غير الديني، فكيف يحارب الاستبداد بدون بندقية ورصاصة؟ كما قال ذلك ماو تسي تونغ الصيني إن الحرية تأتي من فوهة البندقية، فأسس نظاما مبنيا على الرعب، ويمكن مراجعة كتاب «بجعات برية» لنفجع بالأخبار من كاتبة صينية. ويبدو أن الأمة كلها تسبح في مستنقع العنف، ولن تتعلم إلا بالمعاناة.
وعندما طرحت كتابي «سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي»، الذي نشرته دار الفكر، بالإضافة إلى كتاب «جدلية الفكر والقوة والتاريخ»، رأى فيه البعض أنه مثالي طوباوي، أو أنه يفتقر إلى الأدلة الشرعية. ولكن بعد الانفجارات في كل مكان بدأ هذا الفكر يأخذ شيئا من الأهمية. ويتصل بي البعض على مضض وخجل، ولكن بمجرد أن نبدأ بالتواصل يحصل الانقطاع.
والسبب في هذا أن الشيء الذي وصلت إليه عن مشكلة العنف والإرهاب، يرجع إلى قاعدة معرفية غير موجودة في المصادر التقليدية للفكر الإسلامي. كما أنها غير موجودة في الفكر الإنساني، إلا في عروق أندر من شذور الذهب وخامات اليورانيوم في تربة الأرض.
والانفجارات التي حدثت في إسبانيا يوما كما حدثت من قبل في نيويورك، يبدو أنها رست على حساب الإسلاميين. وهو أمر تختلط فيه الأشياء. مما يذكر بقصة الإخوان المسلمين وعبد الناصر في حادثة المنشية. فالفرق أن تكون بين مستغِل (بالكسر) أو مستغَل (بالفتح) شعرة. والإخوان المسلمون ما زالوا ينفون عن أنفسهم التهمة حتى اليوم، ولكن اللعبة تحبك عادة بين الذكي الخبيث والساذج المغفل.
والمؤرخ البريطاني ويلز يقول في كتابه «معالم تاريخ الإنسانية» إن قانون التاريخ يمضي فيعاقب المغفلين، وينتقم من المجرمين. ومالك بن نبي يرى في الاستعمار خيرا، من طرف أنه صفعة إيقاظ. وكان سقراط يقول إن الذباب يطرد الخمول عن الخيل. ورأى المؤرخ توينبي أن إسرائيل اليوم منخس موقظ للعرب من أجل اليقظة. وأحداث 11 شتنبر عام 2001م في أمريكا، أو لاحقا في 11 مارس 2004م في إسبانيا، لن تكون نهاية الإرهاب، بل قد يصل الأمر كما جاء في فيلم «The Sum of all Fears كل الخوف» إلى إمكانية تفجير قنبلة نووية في مدينة عالمية.
ونشرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية، في مطلع 2004م، عددا بعنوان «سوبر ماركت القنابل النووية»، شرحت فيه مخاطر تسرب التقنية النووية ليس ليد حكام طغاة، بل إلى يد عصابات مدربة على نشر الفزع الأعظم. والبشرية اليوم في حالة من الفراق بين التكنولوجيا والأفكار؛ فالتكنولوجيا سبقت الفكر والبشر يجتمعون مع بعض بأسرع من كل تمهيد، ونظرة لـ«الواتساب» أو نظام «الإيمو»، تعطيك الخبر اليقين.
وهذا يفتح الطريق لصدامات ليست من نوع صدام الحضارات، كالتي يتكلم بها أناس لا يصلحون أن يكونوا تلاميذ في الحضارة والتاريخ، بل هو صدام بين مجانين العالم. وبوش لا يختلف كثيرا عن شارون وابن لادن، فالكل يؤمن بالقتل. وهو كلام قالته وزيرة العدل الألمانية عن بوش، فشبهته بهتلر، فكلفها منصبها.
والفكر الإسلامي حاليا يعيش مرحلة جديدة من إحياء فكر الخوارج، وفهم الجهاد منكوسا على رٍأسه. ويعاون كل من الجامع والجامعة على إنتاج فكر إسلامي متشرب بالعنف. وأخطأ المفكر المغربي بلقزيز، حينما كتب في جريدة «الوطن»، أن عنف الإخوان المسلمين جاء من فكر سيد قطب. ويبدو أن الرجل تنقصه المعلومات. ومؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا هو من صنع النظام الخاص بيديه، ثم انفجر به بعد أن قتل أتباعه النقراشي. ثم دارت الدائرة عليهم حينما أرادوا اغتيال عبد الناصر، سواء بتخطيط منهم أو عليهم. وعلى كل حال فلو نجح الإخوان المسلمون لفشلوا، لأن الدول الحديثة لا تقوم على الحماس والتقوى، بل فهم إحداثيات التاريخ وتطور العالم.
والفكر الإسلامي التقليدي بما فيه الإخواني منفك عن إحداثيات التاريخ، منذ أيام السلطان المملوكي أبو سعيد جقمق، وهو أمر لو ناقشتهم فيه ألف سنة لم تصل إلى نتيجة. والنتيجة التي وصلنا إليها، أن الصراع الإسلامي القومي دمر البلاد والعباد وأهلك الحرث والنسل.
خالص جلبي