وباء الإرهاب وعنف الدول
بقلم: خالص جلبي
يرتعش العالم اليوم فرقا من حرارة الإرهاب، ودخل الخوف على الجميع، وضاقت الأرض بما رحبت، ويفتش الناس في المطارات والمؤسسات مثل تفتيش اللصوص، والحكومات تعالج الإرهاب بالأدوية الأمنية، مثل معالجة المصاب بالسرطان بالأدوية الكيماوية، فيتساقط الشعر، ولا ينجو المريض في النهاية، وعلة المرض ثقافية، وما لم تجر جراحة جذرية على الثقافة فلا أمل بالشفاء، والإرهاب ليس عربيا أو إسلاميا بل عالمي، وينتشر بأشد من مرض الإيدز، والأمراض العضوية تنتشر بـ(وحدات) من الجراثيم والفيروسات، والأمراض (الاجتماعية) تنتقل بوحدات نوعية من (الأفكار)، وكما في علم الصحة والمرض كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية، وسبب انتقال الأمراض ليس قوة الجرثوم والفيروس، بل ضعف الجهاز المناعي على شكلين: فإما انهار فلم يقو على المقاومة، أو واجه مرضا غير معروف فأخذ الجسم على حين غرة لحين تكوين الأجسام الضدية. وهلك معظم أهالي الأمريكيتين بالجدري أكثر من حراب ومدافع الإسبان. وعندما ينتشر الإرهاب في بلد فلعدم وجود اللقاح والمناعة الكافيين، والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون. والعالم اليوم لا أمان فيه لأحد، وليس هناك من بقعة يهرب إليها أحد؛ فالتفتيش والكمبيوترات تحصي دبيب كل نملة وطنين كل نحلة، وليس من نجاة إلا بالترياق (السلمي) أو ما أسميه أنا في زاويتي: الطيران للمستقبل بجناحين من العلم والسلم، وجراثيم قليلة كافية لتدمير نسيج حي، وفيروس تافه يقضي على أنبل الأعضاء مثل الجهاز العصبي، فيصاب الطفل بالشلل وهو يستقبل الحياة، كما عانت عائلتي بالذات لأحد أخوتي ونجوت أنا، ولم يكن لقاح (سالك وسابين) متوفرا، ومرض تافه يقضي على أنبل الكائنات، والقراد يقضم أجنحة النحل فلا تقو على الطيران فلا تجمع رحيقا ولا تنتج عسلا، وغاندي قتل برصاصة من متعصب هندوسي مهووس رأى أن غاندي بدأ يحب المسلمين، والرجل كان قلبه يفيض بالحب لكل الخلائق، وكان يقرأ القرآن والتوراة والزبور والإنجيل والفيدا فينتقل من سطر إلى آخر ومن كتاب إلى ثان بدون شعور بالتناقض، وقال قبل موته: «أريد أن أذهب لزيارة باكستان، لأثبت لهم أن الشيطان الذي في قلوبنا واحد». وخلايا بسيطة من تنظيم سري مسلح كافية أن تقض مضجع مجتمع آمن، والأمن متعلق بجرعة العدل في المجتمع، مثل كمية الحديد في الدم، والفوسفور في الدماغ، واليود في الغدة الدرقية، فإن نقص اهتزت اليد وقصر الدماغ وأصيب المرء بفقر الدم، وكذلك حال العدل في المجتمع فينتفض بالعنف ويشيخ بالظلم ويضعف بالبطالة والفقر، والأمن متعلق بالعدل يدور معه حيث دار، والحريات مربوطة بمقدار الأمن، والمجتمع يسبح في هذا المثلث بين (العدل ـ الأمن ـ الحريات). ولم تتضح لي آية سورة «الأنعام» عن إبراهيم، حتى جاءت أحداث شتنبر في ربط خلل الأمن بالظلم (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون). وفي المقابلة التي أجرتها مجلة «دير شبيغل» الألمانية مع الكاتب الهولندي (هاري ميلوش)، بعد أن طعن (تيو فان جوخ) بالخناجر في بطنه حتى الموت على طريقة الحشاشين، قال الرجل: «لقد دخل علينا الخوف أجمعين، وبدأنا نتذكر أيام محاكم التفتيش، وهو أمر تجاوزناه منذ عصور التنوير قبل قرون». وبدأت الجاليات الإسلامية في أوربا بدخول باب الفتنة والمحن والتضييق والمراقبة، وعدد المسلمين في أوربا ليس قليلا ويزيد عن 25 مليونا من الأنام، والإرهاب لا يحارب بالمخابرات فنعالج المرض بالمرض كما تفعل أمريكا، ويقول نعوم تشومسكي في كتابه «قراصنة وأباطرة»، إن أمريكا تحارب إرهاب الأفراد بإرهاب الدولة، وهو يذكر بقصة القرصان والإمبراطور، فالإسكندر الأكبر ألقى القبض على القرصان وبدأ في تقريعه كيف يزعج البحر؟ فكان جواب القرصان: «إنني أغير بسفينة صغيرة فأسمى قرصانا، وأنت تنهب العالم بالأساطيل فتسمى إمبراطورا». ومن يعالج الإرهاب بالمخابرات فهذا يشبه معالجة مريض التيفويد والملاريا بالأسبرين، قد تنزل حرارته ولكن لا تزيل أسبابه، والمعالجة في الطب معالجتان: عرضية وسببية، ويجب أن تمزج معا، فيعطى مريض التيفويد خافضات الحرارة والكلورامفنكول، كما يعطى مريض الملاريا الأسبرين والكينين معا، وكذلك الحال مع معالجة الإرهاب، فيجب أن تجند الشرطة مع رجال الفكر والثقافة جنبا إلى جنب، ومنذ أكثر من عشر سنوات وأنا أنادي بالعلاج السلامي في المجتمع، وأن المجتمع والسياسة تصنع وتصان سلميا، ولو انتبه المسؤولون إلى كلماتي لوزعوا كراسات تضم أفكاري بالملايين لكل الحجاج فحقنوا بكل سطر دم امرئ مسلم. ومن أعجب الأمور أن القنوات الفضائية حتى اليوم لا تستضيف الفريق الذي ينادي باللاعنف منذ 40 سنة، ومن يحتل المنابر هم العنفيون حتى اليوم، ويسمونه جهادا فيبدلوا الكلم عن مواضعه. ولم يقل أحد في يوم عن الخوارج إنهم كانوا مجاهدين، وهم الذين دمروا المجتمع الإسلامي بالعنف، وما زالت أفكارهم ترسانة تمد العنفيين حتى اليوم بالنماذج الفكرية، ألا ساء ما يحكمون. ويبدو أن المجتمعات لا تتعلم بالأفكار، بل بالعذاب فيقولوا هل إلى مرد من سبيل، ويأتي العذاب على جرعات حتى يتصحح المسار، ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون.