شوف تشوف

الرأي

والآن ما هو الفيروس؟

بقلم: خالص جلبي
الفيروس كائن عجيب فلا هو حي فيرجى، ولا ميت فينعى، بل هو بين بين. تارة يعد مادة جامدة لا حياة فيها، فيتبلور مثل الملح، وينساه الناس، وتارة ينشط فيتكاثر ويضرب ويوجع كما فعل فيروس الإيبولا، وكما فعل «كوفيد- 19» في مطلع عام 2020. هل هو ميت؟ يقولون نعم ولا، هل هو حي؟ فيقولون نعم ولا. وسبحان من يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ذلكم الله ربكم فأنى تؤفكون. عند هذه العتبة من الانتقال بين الجمادات والأحياء بيت الفيروس، ومكان عشيرته، ومرتع صباه وفتوته، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
إنه صغير يحتاج إلى تكبير عشرات الآلاف من المرات، حتى يرى، ولكنه يتكاثر كلمح البصر أو هو أقرب، وأحيانا بالثواني (الإيدز مثلا 65 ألف مرة)! لقد عرف أن هذا العالم المغيب مثل عالم الجن الدقيق، يعج بقبائل ضاربة من العوامل الممرضة، هي خلف الأمراض التي تفتك بنا؛ فهناك اللولبية الشاحبة تسبب مرض الإفرنجي الزهري، وهناك الأشكال المكورة مثل عناقيد العنب، وهناك الأشكال المنتفخة، مثل الأكياس المحشوة، أو مثل شكل الكوسا والباذنجان، ومنها ما له شوك خارجي، أو دبابيس، أو شعر، ومنها ما هو أملس، واليوم نعرف ما لا يقل عن خمسين ألف نوع من هذه القبائل الممرضة. منها ما هو ممرض للبشر، وغير مؤذ للقرود مثلا، كما اكتشف في الإيدز، ولم تعرف علة ذلك تماما. ومنها ما يغير طبيعته باستمرار، وهو ما يقف حائلا حتى اليوم، أمام تطوير لقاح ضد (رشح) الإصابة بالبرد الشتوي، مع انقلاب الجو. ومنها (الكريب) البسيط، الذي يغير طبيعته، كما حدث مع الكريب (الأنفلونزا) الإسباني عام 1919، فقضى على ملايين الناس وهم يرتجفون هلعا، كما هو حالنا مع كورونا عام 2020م.
إن البشرية والحضارة كائنان هشان للغاية، وهناك من كتب كتابا مثيرا، عن أثر الأمراض في رسم مصير التاريخ والحضارة، مثل الطاعون الذي قضى في العصور الوسطى على ثلث سكان مدينة لندن، أو كان له دور في القضاء على حضارات أمريكا الوسطى، بالجدري، فاجتمع عليهم الطعن والطاعون والنهب والطرد.
لقد كان الناس في ما سبق تأتيهم الجوائح والطواعين، وهم لا يعلمون كيف جاءت ولماذا غادرت. فكان الناس ينحنون على المريض فيقبلونه؛ وهم يبكون عليه، فينتقل المرض منه إليهم وهم لا يدرون.
وأنا شخصيا أتذكر نفسي وأنا طفل، عندما حضر إلى والدي رجل، قد اصفرت عيناه، فلما انصرف؛ روى لي والدي، أن سبب المرض هو الخوف الشديد، وكانت المفاجأة لي، عندما علمت أنه حتى يشفى، فلا بد من تخويفه بجرعة رعب أفظع من التي تلقاها. وكان السؤال من يقوم بهذه المهمة؟
وحتى نأخذ فكرة عما يمكن أن يفعل الفيروس إذا انتشر، فيجب رؤية فيلم «الانفجار Outbreak»، أو تذكر الإيبولا وأنفلونزا عام 1918م، أو كورونا التي حبست العالم في قمقم.
أما فيروس الإيبولا فهو دراكولا مصاص الدم، إنه فيروس ليس كالفيروسات، يلتوي على نفسه في أعداد لا تنتهي مثل الديدان أو الأفاعي، باطنه شحنة من الأحماض النووية تبلغ ضعف ما هي في فيروس الإيدز، الذي لم يطوق حتى الآن بعلاج أو لقاح، ومعطفه الخارجي طبقة شحم، وتبرز من أطرافه نتوءات تشبه أقدام الزاحفة (أم أربع وأربعين). وما عرف عنه أن فيروس الإيدز أمامه مثل الفرق بين البعوضة والذبابة، ففيروس الإيدز أمامه رحمة!
فيروس الإيدز يمشي كلصوص الليل المتسللين، ولا يعلن عن هويته مثل المنافقين، ويضرب ضربته في الظهر بعد حين مثل كل الغادرين. أما فيروس (الإيبولا) الذي أخذ اسمه من نهر في الزايير، حيث زمجر المرض وكشر عن أنيابه، فهو يضرب بسرعة ووضوح وبمنتهى القسوة وبشكل دموي، فحضانته لا تحتاج كما في الإيدز إلى سنوات، بل هي بين 2 و21 يوما، وإذا بدأت مظاهر الحمى والألم فيبقى دور الطبيب دور الشاهد، على فصول الموت الأخيرة لا أكثر.
وكما انتشر فيروس (الإيدز) سابقا بواسطة الدم وأخلاط البدن والعلاقة الجنسية المشبوهة، فإن فيروس (الإيبولا) يعيد السيرة نفسها السابقة. فيروس الإيدز يستخدم استراتيجية التغيير في التركيب الكيماوي الحيوي، حيث يقتحم تركيب الحامض النووي فيصبح قطعة منه، أما استراتيجية الإيبولا فهي أدهى وأمر، حيث يعمد إلى العنف في التركيب الجزيئي، بمعنى أنه يعرف لغة واحدة فقط هي، التكاثر والتكاثر…
فيروس الإيدز يسطو على أنواع من الكريات البيضاء في الجهاز المناعي، أما هذا فيستخدم أي خلية مطية لهدفه المدمر، فباعه في الحيل أوسع وأمكر، إنه يتودد إلى دوريات الحراسة من الخلايا المهتمة بتصيد الأجسام الغريبة (المعروفة بالبالعات MACROPHAGES) فتنخدع به فيمتطيها، فإذا أصبح في داخلها ضرب ضربته فنسفَ البناء من داخله، فتسرب إلى كل الأجهزة النبيلة والأعضاء الحساسة، وبذلك تحترق خلايا الكبد، وتدمر مصافي تكرير بترول الجسم (الكليتان) وينعطب الطحال، ويُنسف الكظر، غدة ما فوق الكلية، وتتدمر الطبقة الباطنة للأوعية الدموية فينهار جهاز لزوجة الدم بالكامل، فحيث يسبح الدم بنعومة بين التميع والتخثر، وينساب كأنه اللحن العذب يضخ الحياة في طرقات مملكة البدن التي تبلغ مائة ألف كيلومتر، يحدث الانقسام والنزاع في هذه المملكة اللطيفة، فيتحول كل قسم من الدم إلى حزب، جزء متطرف يتكتل على نفسه فيكون الخثرات مثل القطران الأسود، وجزء كسل رخو مهمل يفقد كل قابلية للتماسك، فيتسرب الدم من كل مكان شيعا وأحزابا وكل حزب بما لديهم فرحون.
هذه الظاهرة هي التي يخشاها كل الأطباء ويرتجفون منها، ويرمز إليها بحروف مخيفة (DIC)، أي انحلال الدم الشامل، فيصبح الدم برقة الماء بدون أي تماسك.
فهذا ما يفعله فيروس الإيبولا الدراكولا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى