شوف تشوف

الرأي

واشنطن وبكين وكيسنجر

عبد الحميد توفيق

في شهر مارس من العام الجاري أطلق الدبلوماسي الأمريكي المخضرم، هنري كيسنجر، صرخة استباقية مثيرة وجديرة بالاهتمام.
كيسنجر دعا الولايات المتحدة الأمريكية إلى التفاهم مع الصين حول نظام عالمي جديد «لضمان الاستقرار»، محذرا مما أسماها «فترة خطيرة» شبيهة بتلك الفترة، التي سبقت الحرب العالمية الأولى في أوروبا، ستواجه العالم إذا لم يتفاهم الجانبان، حيث كانت الصراعات المستمرة تُحَل على أساس فوري، لكن أحدها كان يخرج عن السيطرة في مرحلة ما فيؤدي إلى وقوع كارثة.
يستشعر مهندس الدبلوماسية الأمريكية لسنوات طويلة في عهد الرئيسين الأمريكيين الأسبقين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، والرافد الغني لمؤسسات القرار السياسي والدبلوماسي الأمريكي حتى الآن، أن الأمر الآن «أكثر خطورة» مما كان عليه في السابق بسبب الأسلحة فائقة التكنولوجيا، التي يمتلكها الجانبان والتي قد تؤدي إلى صراع خطير للغاية.
الأمر المهم، برأيه، يتعلق بما إذا كان بمقدور الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الوصول إلى تفاهم مع الصين حول نظام عالمي جديد.
يرسم كيسنجر معادلة محكمة ومجردة لوجهة نظره، فيشير إلى البعد النفسي لدى الجانب الأمريكي المتعلق «بصعوبة» قبوله التفاوض مع خصم مثل الصين، يتقدم اقتصاديا باستمرار عليه، ويسجل تفوقا مطردا في جميع المجالات، ويتحدث من جانب آخر بموضوعية متقنة ورصينة حول ما إذا كانت الصين، انطلاقا من موقعها الراهن على جميع الصعد، ستقبل بهذا «النظام الدولي الجديد» مع واشنطن.
لا يتردد الدبلوماسي الأمريكي في الإشادة بما أسماها «مهارات» الصين في تنظيم نفسها لتحقيق تقدم تكنولوجي تحت سيطرة الدولة، ولا يخفي صراحته في مطالبة الغرب بأن «يرتقي بأدائه وأن يؤمن بنفسه»، لأن المشكلة، كما يراها، مشكلة غربية داخلية وليست مشكلة صينية.
هل يمكن أن يكون لصرخة كيسنجر صدى في ظل الخيارات الجديدة، التي ترجمتها إدارة بايدن على أرض الواقع ضمن استراتيجية مواجهة الصين أو احتوائها عمليا، وفي مقدمتها اتفاق أوكوس مع بريطانيا وأستراليا؟ ما احتمالات وإمكانية أن يتحول «أوكوس» إلى سياق حيوي لترطيب الأجواء وتهدئة التشنجات، بين الأمريكيين والصينيين، ويؤسس للانخراط في دبلوماسية مشتركة تفضي إلى بلورة نظام عالمي جديد يتربع على قمته هذان العملاقان؟
تفرض هذه الأسئلة مشروعيتها انطلاقا من حيثيات التحولات الماثلة في المشهد الدولي عموما، ومن النظر بجدية إلى التهديدات المتنامية بين الجانبين الصيني والأمريكي، بالتوازي مع محاولات كل منهما التأثير على خيارات الآخر في أكثر من ميدان وساحة.
تجلى الأمر في أقصى أشكاله، تحديا وتهديدا، بالاتفاق الثلاثي الأمريكي – الأسترالي- البريطاني، وهو مُصمَّمٌ، كما يبدو واضحا، لردع القوة العسكرية والاقتصادية للصين بشكل عام، والتركيز على جنوب المحيطين الهندي والهادئ، حيث المصالح متداخلة ومتشابكة ومتعارضة في آن.
نداء كيسنجر يبدو الأكثر عقلانية بفعل عوامل عديدة لا تتوقف عند ما يحوزه الجانبان الصيني والأمريكي من أسلحة تقليدية وغير تقليدية، وما تحمله من مخاطر عليهما فقط، بل يتجاوزها إلى تشابك المصالح الدولية مع كل منهما، اقتصاديا وعسكريا وأمنيا، إضافة إلى التحالفات التي تربط دولا أخرى بكل منهما.
هنا يبدو الخطر المحدق، في حال حدوثه، وكأنه سيطال المعمورة برمتها.
لم تحجز الصين مقعدها كقوة اقتصادية ثانية في العالم في غمضة عين ولا بين ليلة وضحاها.. ظلت، ولا تزال، تقوم بدور المراقب لمجريات وتحديات ساحات الصراع بما فيها بعض القضايا، التي تعنيها مباشرة، وقضايا دولية أخرى، دون الانزلاق إلى أتون صراع ميداني مسلح أو مواجهة عابرة.
استلهمت الصين قوتها من عواملها ومعطياتها الذاتية.. اختزلت نظريات الصعود والنهوض، بأولوية التفوق العلمي والتكنولوجي خدمة لاقتصادها، إنتاجا وتسويقا.
بالمقابل، خطاب النخب الأمريكية، وفي المقدمة إدارة الرئيس بايدن، يجسد موقفا حاسما لجهة اعتبار الصين تحديا وخطرا استراتيجيا اقتصاديا وعسكريا وأمنيا على الولايات المتحدة الأمريكية وعلى هيمنتها، وعلى مستقبل زعامتها المتفردة للعالم. من هنا تكتسب دعوة كيسنجر فرادتها وأهميتها الاستراتيجية، ليس بالنسبة إلى القطبين الأمريكي والصيني فحسب، إنما لمصلحة الاستقرار والأمن الدوليين، حيث تتجلى كنظرية مبتكرة ومعاصرة تهدف إلى صياغة شكل وأسس العلاقات الدولية الجديدة، استنادا إلى حقائق ومقومات الدول الصاعدة بعد دول وكتل أَفَلَتْ، أي الاتحاد السوفياتي، كما تهدف إلى بث الروح في علاقات دولية سابقة ظلت محكومة بتوازنات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
اتفاق «أوكوس» حاضنة لمجموعة سلوكيات وأساليب مقبلة، عسكرية، أمنية، سياسية، ستلجأ إليها واشنطن وشريكاتها للتعامل مع المارد الصيني، بالحصار المتدرج في المياه واليابسة، أو بالانتقال إلى مستويات من التحدي العسكري في الميادين ذاتها، وربما بكلا الأسلوبين كأدوات ضغط، على أمل الوصول إلى تفاهمات واتفاقات تهدئ خواطر واشنطن وتلبي مصالح بكين.
لا بد أن يفعل «أوكوس» فعله في منطقة أو منعطف ما.. السلوكيات غير المحسوبة قد تكون مدمرة.. صرخة كيسنجر سبقت إشهار «أوكوس» بنحو ستة أشهر، ولا بد من تأملها ودراستها باهتمام من قبل حكماء الجانبين، والبناء على ركائزها كاستراتيجية جديدة لعلاقات دولية غير مضطربة مستقبلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى