رغم أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في بكين لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، في وقت سابق من شهر مارس الجاري، يبدو للوهلة الأولى وكأنه يخدم المصالح الأمريكية، إلا أن نظرة أكثر تفحصا تفيد بأن واشنطن لم تكن سعيدة حقا بهذا التطور، فهو يمثل، من جهة، نكسة لجهود احتواء نفوذ خصمها الأبرز على الساحة الدولية (الصين) في منطقةٍ ذات أهمية استراتيجية للمصالح الأمريكية، ومن جهة ثانية يمثل فشلا لجهود عزل إيران ومراكمة الضغوط عليها، في تغير واضح للسياسة التي كانت سائدة مطلع عام 2021، عند وصول إدارة الرئيس بايدن إلى الحكم. في ذلك الوقت، شجعت الولايات المتحدة حلفاءها في المنطقة، خصوصا السعودية، للانفتاح على إيران بما يساعد في وقف حرب اليمن وتخفيف حدة التوترات التي تصاعدت في الخليج خلال فترة حكم إدارة دونالد ترامب. كانت هذه السياسة قائمة عندما كانت واشنطن ما زالت تأمل بإحياء اتفاق 2015 النووي مع إيران، وتريد التفرغ لمواجهة الصين، لكنها تغيرت في الشهور الأخيرة، خصوصا بعدما اتجهت إيران نحو دعم روسيا في حرب أوكرانيا، ما دفع واشنطن نحو ممارسة مزيد من الضغوط على طهران، سواء لجهة تشديد العقوبات ضدها أو إحياء محاولات إدارة ترامب إنشاء تحالف شرق أوسطي لاحتواء نفوذها وطموحاتها الإقليمية والنووية.
بخصوص الصين، تمكنت الولايات المتحدة خلال العام الماضي من احتواء صعودها المتسارع على الساحة الدولية، إذ أغرقت حليفتها روسيا في أوحال أوكرانيا وشددت من إجراءات محاصرتها إقليميا، فأنشأت تحالفا ضدها يضم إليها بريطانيا وأستراليا (أوكوس) وقوامه تزويد هذه الأخيرة بغواصات تعمل على الطاقة النووية، في تحول نوعي لموازين القوى في شرق آسيا. كما أحيت واشنطن تحالف الكواد (الرباعي) الذي أنشأته عام 2007 مع الهند واليابان وأستراليا، وأقنعت اليابان بتغيير عقيدتها الدفاعية، بما في ذلك المادة 9 من دستور 1947 التي حرمت اليابان من حقها السيادي في إعلان الحرب، وخصصت مبالغ إضافية للدفاع والتسلح تصل إلى 320 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، بحيث غدت اليابان ثالث أكبر منفق عسكري في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. فوق ذلك، زادت الولايات المتحدة من دعمها قدرات تايوان العسكرية، لصد أي هجوم صيني محتمل عليها، في حين عادت إلى شغل قواعدها العسكرية السابقة في الفلبين وضاعفت عددها من خمس إلى تسع قواعد. ولعبت واشنطن دورا مهما في تذليل الخلافات بين اليابان وجارتها كوريا الجنوبية، بحيث صار ممكنا إنشاء تحالف بين الخصمين التاريخيين لمواجهة الصين. ونتيجة ذلك، غدت الصين محاطة بمجموعة من الخصوم يمثلون طوقا أمريكيا يمتد حولها ويشمل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وفيتنام والفلبين وأستراليا والهند. وفيما تتولى واشنطن محاصرة الصين إقليميا، تزيد من حدة الضغوط عليها اقتصاديا ودبلوماسيا، إذ أقنعت حلفاءها في حلف الناتو بتصنيف الصين كتهديد أمني عالمي، يسعى إلى تقويض النظام الليبرالي الدولي، وهي تدفع حاليا إلى إشراكهم بمحاصرتها تكنولوجيا، بما في ذلك مقاطعة الشركات الصينية الرائدة في هذا المجال، مثل «هواوي» و«تيك توك»، التي أعلنت نيوزيلندا، قبل أيام، عن قرار حظر تطبيقاتها.
في هذا الوقت تحديدا، وفي ما كانت الولايات المتحدة منهمكةً بإطباق الحصار على الصين، صدر الإعلان من بكين عن اتفاق إيراني – سعودي لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، اعتبره وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، في حديث مع ديفيد أغناطيوس في صحيفة «واشنطن بوست»، بمثابة اختراق استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة سعودية للعب الولايات المتحدة ضد الصين.
بموافقتها على الوساطة الصينية مع إيران، تعتبر الولايات المتحدة أن السعودية تقوض سياسة الاحتواء التي تمارسها ضد الصين، وتفتح لها بابا واسعا للعب أدوار في منطقة مرشحة لأن تلعب دور المرجح في التنافس الدولي الذي يستعر بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة والصين، وإلى جانبها روسيا ودول أخرى تتفق في رغبتها إسدال الستار على حقبة الهيمنة الأمريكية. هنا، يبدو الرهان الأمريكي قائما كليا على عجز إيران عن تغيير سلوكها، وبالتالي إعادة السعودية إلى المعسكر الأمريكي، فهل تسدي إيران هذه الخدمة لواشنطن؟
مروان قبلان