واحد فيكم كذاب
وضع الكاتب العام للمجلس الجماعي بالرباط المنتمي لحزب العدالة والتنمية أصبعه على الجرح، عندما كتب متسائلا «بنكيران يقول خسرنا المعركة والعثماني يقول لقد انتصرنا، من نصدق إذن؟».
الجواب جاء على لسان سمية بنكيران، التي يبدو أنها أصبحت هي وأخوها أسامة مكلفين بتصريف مواقف وانفعالات والدهما عبد الإله الذي أصبح بدوره يتحدث وكأنه يمشي على البيض، عندما كتبت واصفة رفاق أبيها بـ«المتحولين والحربائيين الذين باعوا مبادئهم أمام وهج المناصب وبريقها»، مضيفة أن «دياولنا للأسف مع الرابحة»، في إشارة إلى رفاق أبيها الذين استوزروا في حكومة العثماني.
«وملي كلناها ليكم حنا من شحال هادي كلتو علينا كذابين وأفاقين، دابا عاد سرا معاكم القالب وفهمتو أن دياولكم تابعين غي المناصب».
لقد قلناها أكثر من مرة في هذا العمود، هؤلاء ليسوا طلاب مبادئ بل طلاب مناصب، ولذلك نرى كيف أن يتيم والخلفي اللذين كانا من أقرب مقربي بنكيران قلبا وجهيهما عنه بمجرد ما ضمنا مكانهما في حكومة العثماني.
وقد أعطى وزراء العدالة والتنمية الذين عادوا إلى السفينة الحكومية مع العثماني، مثالا ساطعا على التعلق المرضي بالمنصب الحكومي، كما لو أن الحزب لا يوجد به أشخاص آخرون غيرهم يستحقون أن يتحملوا الحقائب الوزارية.
واليوم هناك حاجة ملحة لكي يخرج عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة، لكي يوضح الأمور بشكل نهائي، هل فعلا شارك ووافق مع بقية أعضاء الأمانة العامة للحزب على التشكيلة الحكومية، كما يقول العثماني، أم إن هذا مجرد بهتان؟
اليوم هناك أحد ما يكذب، يا إما بنكيران وأبناؤه البيولوجيون والإديولوجيون، الذين يروجون أن الحكومة تشكلت بعيدا عن أعين الأمانة العامة، وإما العثماني ويتيم وصحبه من طائفة المؤلفة قلوبهم وجيوبهم الذين يقولون إن الحكومة تشكلت بموافقة الأمانة العامة.
وعوض أن يتسلح «الزعيم» بالجرأة الأخلاقية لكي يصارح أعضاء حزبه بموقفه الصريح من التشكيلة الحكومية، بدل أن يستمر في اللعب على الحبلين، تسربت إشاعة تقول إنه يجمع حقائبه للتوجه إلى مكة لأداء العمرة، تاركا أبناء حزبه يأكلون لحم بعضهم البعض متراشقين بالاتهامات الثقيلة.
ولعل من حسنات هذه الحرب الأهلية التي نشبت بين إخوان بنكيران هي أنها أماطت اللثام عن أوهام كثيرة ظل يسوقها الحزب عن نفسه وأعضائه، ككذبة أنهم يشتغلون مع الله، وأنهم حزب الكلمة والمعقول.
فيوما عن يوم بدأت تسقط ورقة التوت عن حزب العدالة والتنمية، ويوما عن يوم يكتشف المغاربة تقاسيم لم تكن معروفة من وجهه الحقيقي الذي يخفيه وراء مساحيق التدين الزائف والطهرانية الكاذبة.
وهذه المرة لم يكن ضحية ديكتاتورية قادة الحزب الصحافيون المستقلون، على قلتهم، ولا خصومهم السياسيون، بل إن ضحية ديكتاتورية بنكيران هم بعض أعضاء الحزب نفسه الذين تجرؤوا وعبروا عن رأي مخالف لرأي الزعيم بخصوص التشكيلة الحكومية.
ولطالما ظل حزب العدالة والتنمية يتبجح باحترام الديمقراطية الداخلية، مسوقا عن نفسه أنه الحزب الوحيد الذي يعتمد مساطر داخلية معقدة لانتخاب قيادته وهياكله لاختيار المرشحين ومنحهم تزكية الترشح للانتخابات، لكن الممارسة أظهرت أن «الديمقراطية الداخلية» ليست سوى شعار للاستهلاك فقط، وأن الشفافية مجرد «ديكور» لتزيين الكولسة والديكتاتورية والتحكم «الحلال» على المقاس، يتم توظيفها لتكريس الخنوع والعبودية داخل حركة التوحيد والإصلاح وذراعها السياسي حزب العدالة والتنمية، بالاعتماد على عقلية «الشيخ والمريد» التي تؤطر العلاقة بين الأعضاء والقيادة التي لفرط تسلطها أصبحت تعتبر قراراتها وفتاواها مقدسة وكل من انتقدها فإنه تطاول على «الشيوخ» أولياء الأمور وانخرط في مخططات الخصوم والأعداء.
وفي المغرب يقوم حزب العدالة والتنمية بلعب دور الضحية سواء كان في المعارضة أو في الحكومة، حيث يهيمن بنكيران ودائرته الضيقة المقربة منه، على كل القرارات «المقدسة» داخل الحزب والحركة، وكل من عارض هذه القرارات داخل الحزب يكون مصيره التهميش والتشويه لإرغامه على التوبة في ما يشبه عملية الاستتابة، وإن لم يرضخ يكون مصيره الحتمي هو الطرد من «جنة» التنظيم، لأن حركة التوحيد والإصلاح تعتمد في جلساتها التربوية آليات أخطر من «التحكم» لغسل أدمغة الأتباع والمريدين، وتربيتهم على الخضوع والخنوع والطاعة العمياء للقيادة، وكلام الزعيم بنكيران مثلا بالنسبة لهم كلام مقدس وأي انتقاد له فهو انتقاد لرسالة الله وخدمة لأعداء الله، كما وقع مؤخرا للبرلماني السابق، عبد اللطيف بروحو، الذي نال جزاءه بعد جرأته على بنكيران، عندما صرح بالإمكانية الدستورية لتعيين شخص آخر من الحزب الفائز لتولي رئاسة الحكومة إذا فشل بنكيران في تشكيل أغلبية حكومية، وهو ما تم بالفعل، فتم اتهامه بالكذب وفضحه في الجرائد الناطقة كل يوم بأخبار حزب العدالة والتنمية، بخصوص صفقات مجلس النواب، حيث نشرت الجريدة الوثيقة التي تحمل توقيعه على صفقة نالها مكتب للدراسات لوالي تطوان السابق ادريس خزاني، والتي تم اتهام الطالبي العلمي، رئيس مجلس النواب السابق والوزير الحالي، بمنحها لصديقه.
ويعد حزب العدالة والتنمية نموذجا لتدبير رئاسي يجعل من الأمين العام يلعب دورا مركزيا في كل القرارات المصيرية، خصوصا أنه استمد بنيته التنظيمية من تجربة تنظيم «الإخوان المسلمين».
وقد كان العثماني أول من أثار علنا إشكالية تضخم الأنا لدى بنكيران، ففي أحد اللقاءات التي عقدها مع شبيبة حزب العدالة والتنمية، بعث سعد الدين العثماني رسائل مشفرة، انتقد فيها تضخم زعامة بنكيران، واستحواذه على كل القرارات والصلاحيات، ودعا إلى القطع مع حكاية «العام زين» بالتنبيه لكل ما هو خطأ بكل صراحة ووضوح، وانتقد بقوة ما أسماه «تأليه البشر»، وتحدث عن وجود آيات قرآنية تعاتب الرسول، وليس هناك أي عيب في ذلك، لأن «النصيحة يجب أن تكون صوتا مزعجا».
وفوق كل هذا وذاك يستعد بنكيران لكي يقدم ترشيحه لولاية ثالثة على رأس الحزب، رغم أن القانون الداخلي يتعارض مع هذا القرار. لكن حواريي بنكيران مستعدون لتغيير القانون الداخلي للحزب من أجل أن يظل قائدهم المفدى.
فهم ينتقدون الزعامات الخالدة داخل الأحزاب الأخرى وهاهم ينتجون زعماءهم الخالدين، ويتبجحون بكونهم الحزب الوحيد الذي يسمح لأعضائه بالتعبير الحر عن الرأي، وبمجرد ما يغامر أحدهم ويقوم بذلك يحاربونه ويطردونه. فهل هناك كذب أقبح ونفاق أكبر من هذا؟