من أجل الحفاظ على مزاياها الاستراتيجية المهيمنة (السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية)، تبنت أمريكا، منذ أزمتها المالية عام 2008، بشكل مكثف، استراتيجية ردعية باستخدام سلاح العقوبات الاقتصادية والمالية.
كانت هذه الطريقة، في المتابعة القانونية للشركات الدولية الكبرى، بمثابة هجوم على صعود قوى عالمية أخرى مثل روسيا والصين خاصة، أو حتى صدمة لبعض دول الاتحاد الأوروبي الحليفة التي باتت غير راضية عن هذا النهج العدواني، والتي وجدت نفسها، أيضا، معاقبة في دينامية اقتصادها الحيوي بالخارج، ومهددة في مسار مشاريع شركاتها المالية، بتسليط سيف الدولار وغراماته، على رأس التعاملات التجارية الدولية، غير المطبعة مع قراراتها في حروبها الدبلوماسية ضد ما تنعتها بالدول «المارقة».
القوانين التي تريد فرضها الحكومات الأمريكية صارت، بحكم الهيمنة، تتجاوز حدود أراضيها السيادية عند التطبيق، وأضحت أهدافها الجيوسياسية تتبلور على شاكلة، سلاح للدمار الاقتصادي الشامل، الذي باستطاعته الفتك باقتصاد بلد بكامله.
بل أصبحت هيمنة استخدام الدولار في التجارة الدولية محسوسة بشكل متزايد، وتخرق مبدأ «الثقة» في التوازنات الذي تدعو إليه مدونة التجارة الحرة.
الخبراء يقرون فعلا، بأن الدولار هو بالتحديد إحدى هذه الأدوات الفتاكة، لأنه يمثل تقريبا أكثر من 60 في المائة من التجارة العالمية (85 في المائة على المواد الخام)، ويملكه ثلثا المستثمرين العالميين غير المنتسبين لأمريكا.
روسيا المعادية لهيمنة الدولار صارت تخضع، قبل وبعد غزوها للأراضي الأوكرانية، للعديد من العقوبات الأمريكية. فأمريكا تحاول إلحاق ضرر بالغ بالمؤسسات المالية الروسية، مع منع الشركات الأمريكية العملاقة من اقتناء السندات والديون، التي تصدرها المصارف المالية التابعة للدولة الروسية.
روسيا من جهتها، تدين بشدة السلطات الأمريكية في فرض استخدام الدولار، لتوسيع نطاق سلطة محاكمها القضائية لتشمل العالم بأسره.
وتعلم جيدا أنه من المستحيل أن يكون الحل هو تقويم جميع صادراتها أو وارداتها بعملة الروبل الروسية؛ فالسلطات خبرت أن الاقتصاد الروسي يعتمد بشكل كبير على أسواق السلع العالمية، والتي لا يزال الدولار يهيمن عليها إلى حد كبير.
وفي مواجهة هيمنة الدولار، جاء الرد من الصين أيضا التي قررت، في مواجهة المخاطر التي أثارتها الحرب التجارية مع أمريكا، تسريع سياستها الخارجية في فك الارتباط مع الدولار.
لكن بدورها، بدأت تدرك أنه في سياق التوترات الاقتصادية المتجددة مع قرارات الرؤساء الأمريكيين المتوالين تباعا، أن استهداف الأدوات المالية، التي تسيطر عليها أمريكا وحلفاؤها الغربيون، لن يكون في صالحها، وسيزيد من تعرضها للعقوبات والانتقام الاقتصادي.
وقد أثبتت العديد من الدراسات أن النظام المالي المتطور يعزز، بشكل كبير، القوة السوقية العالمية للعملة، كما أن السوق المالي الشاسع، وتوفر السيولة، يجذب المستثمرين الدوليين، وبالتالي توسيع استخدام العملة على نطاق الكوكب كله.
فالمكانة المهيمنة للدولار محل نزاع متزايد، وتكاثرت المناورات الصينية – الروسية، المعارضة لهيمنة العملة الأمريكية، مع بداية الحرب على أوكرانيا.
ومنذ بداية الألفية الثالثة، صرح مسؤولو عدة دول لها ارتباطات اقتصادية وتبعية بأمريكا، برغبة أنظمتهم المالية في التخلص التدريجي من التعامل بالدولار؛ وللتحرر من التبعية الأمريكية، خططت حكوماتهم لإنشاء تكتلات إقليمية، ومحاولة تفويض عملة قوية، مهمة تمثيل اقتصادياتها الفعلية.
فهل بالفعل سيعرف النظام النقدي الدولي تحولا جذريا في هذا الاتجاه، مختلفا عن النظام القديم الذي عرفه العالم، منذ ما يسمى باتفاقيات بريتون وودز؟