هنري لورانس: ««داعش» هي أحد أشكال التطرف الذي يتغذى من العدمية الغربية»
يشغل البروفيسور هنري لورانس منذ عام 2004 بكوليج دو فرانس، كرسي التاريخ المعاصر للعالم العربي. وإن كان قد اشتغل وكتب عن بلدان المغرب العربي فإن الشرق هذا المجال الذي يقول عنه إنه في طور الانقراض، يبقى ميدانه المفضل، وخصص له أزيد من 25 مؤلفا تغطي حقبا تاريخية متباينة وإمبراطوريات عديدة انطفأت بعد بريق عابر.
في هذا المشوار الحافل، خصص لورانس لفلسطين 20 عاما من العمل المضني ترجمته الأجزاء الخمسة التي أصدرها في عنوان: «مسألة فلسطين». صدر الجزء الأول عام 1999، فيما صدر الجزء الخامس أخيرا عن منشورات «فايار». يعود اكتشاف لورانس لسوريا، الأردن ولبنان إلى عام 1977 لما كان يهيئ شهادة الماجستير عن الاستشراق. يوظف في مقارباته التاريخية منهجية المقارنة والتي تمكنه من إجراء «مونتاج» يوفر للقارئ بانوراما شمولية عن التاريخ وفاعليه، الغابر منهم والظاهر.
- أود أن استهل هذه المقابلة بسؤال ربما سبق أن طرح عليك مرات عديدة: ما هو تعريفك للشرق؟
فعلا تكرر على مسمعي هذا السؤال مرات عديدة. لا أدري إن قدمت نفس الجواب أم لا، فعليك أن لا تنتظر مني جوابا بسيطا عن «الشرق المعقد»، وعليه يحتمل الشرق عدة تعريفات. كلما تغيرت المعاني والدلالات الجغرافية، السياسية والثقافية للكلمة على مر العصور. ثمة من يعرف بالشرق بأنه هو اللا غرب. على بساطته وطابعه الفضفاض٬ يبقى هذا التعريف صائبا. هذا التعريف الأنغلوساكسوني له جاذبيته ونجاعته. بيد أن الشرق اليوم كمفهوم هو قيد أو في طور الانقراض بفعل انتظام حياة البشر٬ وأوحدية uniformité» » أنماط استهلاكهم. وهذا نتيجة الامحاء التدريجي للتغاير والاختلاف. كما يمكننا القول اليوم إن الشرق مجال تعددي، بصيغة الجمع٬ وإن التلاقح بين الثقافات والعادات أضحى قاعدة ذهبية. ماذا يمكن أن نقول في حق بلد يفتخر بطبخه مثل فرنسا التي أصبح فيها طبق الكسكس الطبق الوطني الأول؟ وعليه فإن الشرق «يتغرب» والغرب «يتمشرق».
- هل يمكن القول تبعا لما أشرت له إن الشرق بدأ ينسحب من مشهد التاريخ؟
الشرق هو قيد الزوال. لما تتواجد في فندق كبير٬ سواء في سنغافورة٬ باريس٬ نيويورك٬ أو كوالالمبور إلخ…٬ تشعر بأن المجتمعات تساير نفس المقاييس والمعايير والقيود الاجتماعية. لا توجد اختلافات كبيرة بين هذه الدول كما كان الحال من قبل.
ثمة أوحدية هي محصلة للعولمة ولنظام ينزع نحو قولبة حياة الناس في وعاء ومنظومة لا تميز ولا تمايز فيها. بالنظر إلى الأوضاع التي يعيشها الشرق٬ فمن المستحيل على المدى القريب أن ينتفض من رماده لابتكار نموذج بديل. مثل الأندلس٬ قد يتحسر الشرقيون على شرق لم يكن أفضل تحت حكم مستبدين قوميين ليبراليين أو يساريين.
- العمل الذي أنجزه إدوارد سعيد عن الاستشراق تحول إلى بحث مرجعي مؤسس لمدرسة نقدية بأعلام في جميع القارات. لكنك تبقى من بين المؤرخين القلائل الذين انتقدوا مقارباته للاستشراق.. ما هي مؤاخذاتك على فكره ومنهجيته؟
تجدر الإشارة أولا إلى أن إدوارد سعيد لم يكن مؤرخا بل ناقدا أدبيا٬ كما لم تكن له ثقافة عن حقول وميادين الشرق التي كانت ستحميه من ارتكاب بعض الأخطاء البسيطة التي جاءت في كتابه «الاستشراق». المسألة الثانية تتعلق بمؤاخذات سعيد نفسه لما عاب على المستشرقين تحويل الشرق إلى ماهية أو إلى جوهر. في العنوان الفرعي لكتابه هذا العنوان: «الشرق ابتكارا للغرب». لكن في تلك الفترة لم ينتبه إلى أنه ابتكر نفسه جوهرا٬ ألا وهو الغرب. وعليه فإن الشرق مبتكرا من طرف الغرب هو رؤية غربية أساسا. انتبه إدوارد سعيد في ما بعد لهذا الخطأ, وفي كتاباته الأخيرة ندد بكل الأشكال الجوهرية ليقول إنه لا الشرق ولا الغرب يتوفر على جوهر. إنه إدوارد سعيد الأخير.
من ناحية أخرى دافع عن نوع من التغرب في الثقافات العربية والإسلامية وبشكل عام في الثقافات الشرقية. اليوم نحن في وضع معكوس حيث نوجد أمام أشخاص يدعون أن إدوارد سعيد كان على خطأ بما أن هناك عدة ماهيات أو جواهر: ماهية هندية, شرقية, إسلامية, صينية، وأن الشرق ليس من ابتكار الغرب وإنما هو حقائق تاريخية وثقافية إلخ.. بمعنى أن النزعة الثقافية التي يعيبها إدوارد سعيد على الاستشراقيين طبقها العديد من الناس المنتمين إلى ثقافات الشرق.
- يجرنا الحديث عن الاستشراق إلى علاقاته الخفية بالاستبداد، وقد اشتغلت على هذا الموضوع؟
للاستبداد عدة معان ودلالات. أولا هو رؤيا نشأت نتيجة للصراعات الطويلة والمضنية بحوض المتوسط بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الأوروبية، وبالأخص في القرون الأخيرة. في القرون الوسطى لما وقعت القوى الأوروبية تحت انبهار سلطنة المماليك ثم في ما بعد بالامبراطورية العثمانية, كانت تجابه مجتمعات تتمتع بسلطة مركزية قوية: مجتمعات تنعدم فيها الارستقراطية. هذا في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تحت رحمة نظام إقطاعي. كان هذا أول تعريف للاستبداد بصفته قوة خطيرة تملك القدرة على تهديد أوروبا المسيحية. ثم لا ننسى أنه في نفس الفترة, احتل المسلمون البلقان ليصلوا إلى فيينا.
الزمن الثاني لتطور الاستبداد يكمن في التحليل السياسي للقرن السابع عشر، وبالأخص الثامن عشر لما عرف الاستبداد على أنه نظام يمهد للانتكاص والتراجع في المجال الاقتصادي٬ السياسي والثقافي.
تعامل الغرب خلال القرن العشرين مع الاتحاد السوفياتي بنفس المنطق، في مرحلة أولى صرح بعض رجالات السياسة الفرنسيين بأن الاتحاد السوفياتي أصبح على مرمى حجر من باريس وأن قواته ستحتل فرنسا. لكن هذا الخطاب سرعان ما استبدل بخطاب آخر مفاده بأن النظام السوفياتي نظام مشلول ولا يمكن للسوفيات الخروج من جمودهم.
المرحلة الثالثة، والتي يؤرخ لها بحملة بونابارت على مصر أواخر القرن الثامن عشر. سادت آنذاك الفكرة بأنه إن كان الشرق تحت رحمة الاستبداد، فإن الاستعمار الأوروبي سيكون المحرر لهذه الشعوب من الاستبداد. ابتداء من 1870 شرعت أوروبا في احتلال شمولي وبلا منازع. وتحول الشرق من هذا المنظور إلى مختبر جربت فيه أوروبا درجة ومستوى تطورها. في ما بعد شرع الأوروبيون في تمرير الفكرة القائلة إن الشرق هو المرآة الضرورية التي تمكنهم من رؤية ماضيهم المتخلف، وبالمقابل دافعوا عن الفكرة القائلة إن أوروبا هي أفق الشرق.
في الحقبة الاستعمارية٬ راجت الفكرة القائلة إن الديمقراطية لا يمكن أن تصلح لكل المجتمعات, لأن المستعمرين لا يشبهون مستعمريهم. لتدعيم هذا النمط من التفكير استدعي الاستبداد الذي يطبع ويتحكم في هذه المجتمعات. لما سعت فرنسا إلى تطبيق مبادئ وتعاليم الثورة الفرنسية، رفضت ألمانيا هذه القيم باسم الخصوصية القومية. ونقلت الدول الاستعمارية هذا التجاذب إلى مناطق نفوذها.
- لننتقل الآن إلى مفهوم آخر اشتغلت عليه مليا٬ ألا وهو مفهوم الإرهاب. عرفت بأغراضه المتنوعة والمتعددة. هذا المفهوم أصبح مبتذلا, بل وحتى الأنظمة التي تمارسه أصبحت ترفعه كشعار للتبرئة والتبرير، وبخاصة لقمع الحريات. لكن وراء هذا المفهوم هناك تاريخ العنف الذي تشترك فيه جميع المجتمعات بلا استثناء.
هذا صحيح، يحتمل مفهوم الإرهاب تعريفا تعدديا. من هنا صعوبة تقديم تعريف أوحد٬ إذ يحيل من جهة على تقاليد جد عتيقة وقديمة، بدءا مما أسميه «إبادة المستبد»، «Tyrannicide»، أي قتل أو إبادة الحاكم المستبد الذي يمارس استبداده على المدينة. ولنا أمثلة عديدة في هذا المجال، وذلك بدءا من العصور الأولى والموروث الإغريقي هنا حافل بالأمثلة. هناك أيضا الإرهاب كمؤامرة وكانقلاب يلجأ له بعض الأشخاص للاستيلاء على السلطة بواسطة العنف. في العصور القديمة كان هذا الشكل من الإرهاب متداولا وشائعا بأوروبا. ومن بين الأمثلة في هذا المجال اغتيال الملك هنري الرابع، حيث قدم هذا الاغتيال على أنه «إبادة لمستبد». وقد يمتد الإرهاب ليشمل إرهاب الدولة كما وقع مع روبيسبيير خلال الثورة الفرنسية. في المعجم الفرنسي للقرن التاسع عشر٬ فإن الإرهاب معناه العنف الذي تمارسه الدولة ضد المواطنين والمجتمع. انقلبت الدلالات والمعاني عند نهاية القرن التاسع عشر وتحديدا عام 1890 ليصبح الإرهاب النشاط الذي تقوم به مجموعة ضد الشخصيات السياسية. نحن إذن ضمن تقاليد «إبادة المستبد»٬ مثل العمليات الإرهابية بروسيا ضد اليسار والشخصيات التي تدور في فلكه٬ وإما عمليات إرهابية ضد مجموعات اجتماعية٬ أي ضد البورجوازية مثل العمليات التي قام بها الفوضويون بفرنسا بإلقائهم لقنابل على المقاهي ضد البورجوازيين مع رفعهم لشعار: «لا وجود للأبرياء». ثم استخدمت كلمة إرهاب في ما بعد بعدة معان للدلالة وبكيفية إجمالية على المحارب الذي لا يرتدي البدلة العسكرية. نجدنا في هذه الحالة أمام مشكل يدخل في نطاق قانون الحرب. في الحرب عادة ما يتواجه العسكر في ما بينهم، لكن ثمة حالات لمدنيين ساهموا في الحرب، مثلا الإسبان الذين شاركوا في الحرب ضد نابليون. هؤلاء المحاربون المدنيون الذين يحاربون العسكر يعرف بهم على أنهم إرهابيون. بعدها تأتي جميع الحركات القومية، من الامبراطورية العثمانية إلى الصين ثم الحركات القومية والوطنية المناهضة للاستعمار الإنجليزي والفرنسي، والتي أطلق عليها اسم «حركات إرهابية». لجأت هذه الحركات إلى عنف السلاح لتحرير أوطانها من الاحتلال الأجنبي.
هكذا نلاحظ أن الإرهاب يحيل إلى سلسلة من الأنشطة والوقائع جد متنوعة: إرهاب الدولة, إرهاب سياسي, عنف قومي, إلخ.. على المستوى القانوني, راج المفهوم في القانون ابتداء من 1930 وبقي رائج الاستعمال إلى يومنا هذا. الشيء المعقد في مفهوم الإرهاب هو إحالته إلى المحارب اللاشرعي. مثلا كل حركات المقاومة بأوروبا ضد النظام النازي, تتألف من محاربين لا شرعيين وفدوا من بلدان استسلمت أو عقدت صلحا مع هيتلر, وعليه فالأشخاص الذين حاربوا النظام النازي كانوا محاربين لا شرعيين٬ أي إرهابيين. نلاحظ هنا أن كلمة إرهابي تندرج في نطاق تقليد قانوني هو نفس القانون المطبق على القرصنة البحرية. فالقراصنة تم تصنيفهم كأشخاص خارجين عن القانون أي خارج أية حماية قانونية، وبالتالي تحق تصفيتهم استنادا لهذا القانون.
ينطبق على الإرهابيين اليوم نفس الحكم على اعتبار أنهم خوارج أو خارجون عن القانون. لكن تبقى الأسئلة مطروحة: من جهة التبريرات واستعمال العنف٬ سواء في مجال الإرهاب أو الإرهاب المضاد٬ فالإرهابي يبرر دائما استعماله للعنف بأن الأشخاص الذين يهاجمهم حتى وإن كانوا أطفالا٬ ليسوا أبرياء. من جهة ثانية٬ كيف الدفاع عن قضية في الوقت الذي ينعدم اللجوء لأي مساعدة قانونية أو ديمقراطية؟ يوجد الفلسطينيون في وضع احتلال وقمع يدعوان إلى المقاومة. تطرح قضية الإرهاب إذن في مجال يعرف العنف على أنه مقاومة للاحتلال، ومن الطرف الثاني يعرف به على أنه خروج عن القانون من طرف أشخاص خرجوا بارتكابهم للعنف عن المجتمعات الإنسانية.
- لننتقل إلى فلسطين: خصصتم لفلسطين نتاجا بأكمله يتألف من 5 أجزاء٬ صدر الجزء الخامس أخيرا يغطي الفترة الواقعة بين 1982 و2001، أطلقت على الكتاب عنوان: «السلام المستحيل». لكن هذه الأجزاء جاءت تحت عنوان: «مسألة فلسطين». فيما تتحدث أغلب الأبحاث والدراسات، بل والخطاب السياسي اليومي عن «المسألة الفلسطينية»٬ ماذا تقصد بـ«مسألة فلسطين»؟ ثم هل لك أن تحدثنا عن أركيولوجية هذه الورشة؟
في البداية، لما أطلقت هذه الورشة كنت معتكفا على إحداث تواصل وتلاق بين عدة عوالم. بين الفكر الأوروبي والمجتمعات الشرقية، مع التركيز على الحملة النابليونية على مصر. يطلق اليوم بعض الخبراء على ما أسميته شخصيا التلاقي، تسمية «الترابط -Connexion»، وتبقى المسألة مسألة مصطلحات. ما أسميته «مسألة فلسطين» كانت الغاية منه معرفة كيف أن قطاعا جغرافيا صغيرا، يمكن مقارنته بإقليم فرنسي، لا يتوفر على أية موارد اقتصادية، له مثل هذه الأهمية في الجيو استراتيجية والجيوسياسة الراهنة؟ هذا المجال الصغير الذي ليست له أية أهمية يشغل بشكل قوي السياسة الدولية. لكن أدركت أن المسألة في غاية التعقيد: فالمرجعية التاريخية لفلسطين هي أيضا في مرجعية المقدس والقدسي لديانات التوحيد الثلاث٬ وفي نفس الوقت كذلك تاريخ تعددي أكثر راهنية٬ قد يكون تاريخ المحرقة مع ما رافقه من إبادة ليهود أوروبا الشرقية, من جهة ثانية، تاريخ الاستعمار والهيمنة الأوروبية من طرف الأنظمة الامبريالية. «مسألة فلسطين» تشكل إذن مادة تاريخية مثخنة بالتاريخ. ولهذا تحتل في حياتنا أهمية ودورا رئيسيا. هذا ما دفعني إذن إلى كتابة خمسة أجزاء عن هذه المسألة. توقفت هذه المغامرة عند سنة 2001 بسبب التوثيق. أضع حدا لهذه السلسلة للشروع في سلسلة أخرى في موضوع العلاقات بين العالم الأوروبي الغربي والعالم العربي في القرن التاسع عشر. لكن سأعود يوما إلى الاشتغال على «مسألة فلسطين» مجددا. يبقى هذا العمل حصيلة إنجاز تطلب 20 عاما من العمل والبحث في الوثائق والأرشيفات. يغطي الجزء الخامس والأخير المرحلة الممتدة من بداية الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 إلى فشل محادثات طابا في يناير 2001.
- من خلال جردك الدقيق لأحداث ووقائع فلسطين، والتي هي عبارة عن دراما سيزيفية, تعرب في نهاية المطاف عن خيبة يشوبها تشاؤل كبير.. اخترت للجزء الخامس عنوانا ينطق بحقيقته المباشرة, «السلام المستحيل». هل الوضع حقا ميؤوس منه؟
انفرطت الثقة بين الطرفين ووصلنا إلى مأزق لم تعد تنفع معه أية حيل ولا محاولات. انتهت الرحلات المكوكية, لم تعد لا أوروبا ولا الولايات المتحدة تذكر ما يجري في الساحة. حتى حل الدولتين لا أحد يثيره كحل بديل. إسرائيل لن تسمح بقيام دولة فلسطينية، يعرف الفلسطينيون أكثر من غيرهم هذه الحقيقة. لم تعد كلمة سلام تعني شيئا.
- ما هي آثار وتأثيرات الهجرات الكثيفة في اتجاه أوروبا على الإسلام في بلدان الاستقبال؟ في أي اتجاه ستتم التحولات؟
– ستؤثر هذه الوضعية بالكاد وعلى المدى البعيد عميقا على مستقبل البلدان الأوروبية التي ستستقبل هذه الأعداد الكبيرة من المهاجرين واللاجئين. لكن تأثيراتها لن تكون قوية على بلد مثل فرنسا التي ستحتضن عددا أقل مقارنة بألمانيا التي يمكن أن نقول إن الغالبية فيها مسلمون أتراك. وصول آلاف المسلمين غير الأتراك سيغير بالكاد أشياء كثيرة داخل المجتمع الألماني. على أي تفرض علينا هذه الأوضاع الجديدة وتتطلب منا تعريفا جديدا للإسلام. وعليه أمكن القول إن الإسلام هو ما يصنعه المسلمون بهذه الديانة، وبالتالي لا يمكن تعريفه بشكل نهائي. ثم هناك سؤال آخر: كيف سيتعامل هؤلاء اللاجئون مع ديانتهم بعد المحن التي عاشوها وعانوا منها؟ ثم ما هو شعورهم الديني وهم في بلاد التغرب؟ هل سيمارسون نفس الطقوس مثل ممارستهم لها وهم في بلدانهم الأصل؟ الشيء المؤكد هو أن هذا الوضع سيعزز من عالم التواصلية الذي نعيشه اليوم. بمعنى أننا سنتوفر على عالم غربي سابقا، والذي ستتواجد به كل الأجناس البشرية, بما فيه دياسبورا بلا حدود تنتمي لعدة أجيال كما هو الحال بفرنسا حيث يتواجد الأفارقة, الصينيون, الفيتناميون, العرب, إلخ… ستكون المجتمعات الغربية سابقا مجتمعات متواصلة وإلى جانبها ستكون أجناس متجانسة تقريبا ولا ترغب في الاختلاط مع غيرها باسم التميز العرقي. لذا سيتعزز أكثر فأكثر في المجتمعات الأوروبية مد اليمين المتطرف ومد القوى العنصرية. فالاختلاط العرقي لا يعني وجود تواصل وتلاقح بين العناصر المكونة للدياسبورا. فالدياسبورا الصينية مثلا لا تربطها صلة بالدياسبورا الإفريقية أو العربية. التخوف هو أن تصير هذه الدياسبورات جزرا معزولة بعضها عن بعض.
- هل ترى معي أن الشرق، بل ومجموع الدول الإسلامية، تعيش زمن الردة الذي تعتبر «داعش» وأخواتها أحد تجلياته القاتمة؟
انسياق المجتمعات نحو عنف مستدام أداته «داعش» يبرهن عن مرض طفولي يحمل فيه شبان البنادق الرشاشة, المديات والمتفجرات لسفك الدماء والتباهي بأفعالهم. ياسين صالح، الذي فصل راس مخدومه عن جسده, عبد الحميد أبا عود ورفاقه الذين قاموا بغزوات في باريس وضاحيتها, الإعدامات على المباشر التي تقترفها الدولة الإسلامية، تندرج جميعها في ثقافة الثأر والقصاص. نحن أمام ايديولوجية محكمة تقوم على غسل الأدمغة. تجند «داعش» أشخاصا يتوجهون يوميا إلى عملهم وبشكل عادي إلى أن ينقضوا على فريستهم. فـ«داعش» هي أحد أشكال التطرف الذي يتغذى من النيهيلية أو العدمية الغربية.
الإرهاب والاستئصال المستحيل للعدو
ما الإرهاب؟ كيف نعرف به؟ هل يمكن نعت مقاتلي المؤتمر الوطني الإفريقي بجنوب إفريقيا٬ تبعا لتوصيف رونالد ريغان ومارغريث تاتشر٬ بأنهم إرهابيون؟ عمل أولئك الذين استعملوا هذا التعبير على مر السنين على تطوير وإشاعة هذا التعبير٬ والذي غالبا ما كان الهدف من استعماله هو تشويه سمعة «العدو». مثلما وظفت الكلمة دائما بهدف الحط من قيمة قضية والحيلولة دون التفكير فيها.
تزاوج في الأعوام الأخيرة في أجهزة الدولة بالشرق الأوسط معجمان متباينان: الأول معجم مناهض للإرهاب مع ما يتضمنه من تجريم للعدو: إنه معجم المحور الذي يتألف من حلف الأقليات المستعمل للتعريف بكل الأعداء٬ وبالأخص في سوريا والعراق. إنه المعجم نفسه الذي يستعمله المارشال عبد الفتاح السيسي بمصر لتعيين الجهاديين ومجمل الإخوان المسلمين. على العكس من ذلك٬ في حرب اليمن فإن التحالف السعودي يستعمل تسمية «المتمردين» للإشارة إلى الحوثيين وحلفائهم. كما يطلق تسمية مقاومة على خصوم الحوثيين، على اعتبار أن هذه المقاومة لا زالت تحافظ على شرعية الدولة. لكن يلجأ الطرفان كلاهما إلى المرجعية الدينية. فالشيعة يستعملون توصيف «تكفيري» (أي الشخص الذي يستثني خصمه أو عدوه من صفة مسلم)٬ لتعيين الطرف الآخر٬ أي السنة الراديكاليين. كما أن الخصوم السنيين للإخوان المسلمين يعيدون تطبيق التوصيفات نفسها، من قبيل أنهم غلاة وأصحاب فكر خوارجي. هكذا يتم مزج معجم مقتبس من القانون ومن علوم السياسة مع معجم آخر٬ له أصول وسند ديني ولاهوتي.
في خضم هذا الخلط لا مكان لتناقض ثنائي يتعارض فيه طرفان٬ بل ثمة معسكر واحد لأقليات تدعمها إيران وقسم من الأغلبية السنية مشرذم إلى عدة أطراف. في الأثناء ذاتها رفعت الدولة الإسلامية راية الجهاد الذي كانت إحدى تبعاته هي طرح إمكانية التحالف مثلا مع قدماء تنظيم «القاعدة» ضد الحوثيين أو ضد نظام بشار الأسد.
اليوم٬ ثمة عدم تطابق ما بين التعريفات المقدمة للإرهاب من الناحية القانونية، بصفته «تجمعا لمجرمين يتكونون من شخصين أو أكثر»، وبين الحقيقة على أرض الواقع. ثلاث حركات على الأقل يعرف بها جزئيا أو كليا على أنها إرهابية. هذه الحركات هي: (حماس٬ حزب الله وداعش). تملك هذه التظيمات الأرض٬ الإدارة والجيش. كما قد تمتلك عتادا حربيا ثقيلا. نتجاوز في هذه الحالة تنظيمات حرب العصابات التقليدية. على بشاعتها٬ فإن تهمة الإرهاب التي تلصق بالدولة الإسلامية ليست ناجعة٬ على النقيض من تهمة اقتراف جرائم ضد الإنسانية. فالدولة الإسلامية تكرر خطاطة الحرب الثورية التي خاضتها المقاومة بأوروبا خلال الحرب الكونية الثانية٬ وأيضا المقاومة في الصين والصين الهندية والتي قامت على الهدم٬ العنيف للدعم المباشر وغير مباشر للعدو. كما تتدخل باستعمالها للتخويف أو توفير للحماية٬ بل توفير الخدمات لمواطنين عزل. وفي نفس الوقت ترفع شعارات نارية من أجل اللتعبئة. فيما مضى٬ رفع شعار التحرير الوطني وشعار الثورة. اليوم يرفع شعار الخلافة.
خلف اليافطة الجديدة المناهضة للإرهاب٬ نجدنا منشطرين بين حلول سياسية مشكوك فيها واستئصال مستحيل للإرهاب٬ وذلك ضمن الخارطة الراهنة للقوى بالساحة. أكيد أن الانهيار الممكن والمتوخي لنظام بشار الأسد سيفسح المجال لإعادة فتح مجال الممكنات٬ كما قد يمكننا من توضيح رهانات وعلاقات القوى على أرض الساحة.