يونس جنوحي
كان لدينا في يوم من الأيام، بالضبط سنة 1954، مجلة تحمل هذا العنوان «هنا كل شيء».
رئيس تحريرها هو الصحافي الراحل، عبد السلام حجي، وأسسها سنة 1954، بعد عامين مما يشبه التمرد، اشتغل خلالهما في كتابة المناشير السرية والمقالات الساخنة في صحافة الحركة الوطنية، بعد أن طُرد من عمله في إذاعة «راديو ماروك». والمجلة لم تكن سياسية وإنما أدبية خالصة، وأسست لأول نقاش أدبي عصري تسابق المُبدعون المغاربة للمشاركة فيها.
كانت هناك تجارب أدبية سابقة في المغرب، من قبيل المجلات التي أشرف عليها رواد الحركة الوطنية، أو مثقفون بـ«ألوان» أخرى، لكن ما ميز مجلة حجي أنها كانت صوت جيل المثقفين الشباب الذين يفهمون الأمور بمنظور مخالف، بحكم أنهم انفتحوا على الأدب الفرنسي في المدارس، عكس الرواد الذين يحملون العَلم «الكلاسيكي» في كل نقاش فكري وأدبي.
عبد السلام حجي تعلم الصحافة مع الفرنسيين في «راديو ماروك»، وعمل فيه ما بين سنتي 1949 و1952، وما زالت بعض وثائق الأرشيف الإداري الفرنسي شاهدة على الفترة، التي اشتغل فيها محررا ومذيعا يتدرب لترويض صوته الفخم على الأثير.
وبسبب المناوشات مع الصحافيين والإداريين الفرنسيين الذين كان بعضهم في أيام الحماية ينظرون إلى المغربي على أنه من طبقة دُنيا، فقد طُرد عبد السلام حجي من الراديو سنة 1952، وأطلق مجلته عامين بعد ذلك.
عدد من الصحافيين والمراسلين الأجانب الذين اشتغلوا في المغرب في ذلك الوقت كتبوا عن عبد السلام حجي، ونشرت عنه صحيفة «شيكاغو تريبيون» الأمريكية العريقة ربورتاجا مطولا سنة 1953، يصف الأجواء الشائكة التي يمارس فيها العمل الصحافي.
في العام الذي ترأس فيه حجي المجلة الأدبية، كان أيضا يشتغل مع شركة «تيلما» المعروفة بأنها كانت وراء أول تجربة تلفزيونية بالمغرب. فقد كانت هذه الشركة، التي يسيطر عليها الفرنسيون، تؤسس منذ 1952 لتجربة أول تلفزيون موجه إلى الفرنسيين المقيمين في المغرب.
وهكذا يكون عبد السلام حجي أول مغربي في التاريخ يُعلق على الصورة للتلفزيون، خلال العمر القصير الذي استمرت فيه هذه التجربة. وحتى بعد فشل الشركة في إطلاق أول محطة تلفزية في المغرب، فقد بقيت مستمرة في صناعة الإنتاج بالصوت والصورة، وأصبح صوت حجي يُسمع في صالات السينما الفرنسية التي تعرض وثائقيات سياسية عن المغرب في ذلك الوقت، في إطار الحملات الإعلامية التي تقوم بها فرنسا للترويج لسياستها في شمال إفريقيا بين الفرنسيين. وتجربة حجي لم تستمر طويلا، خصوصا وأنه كان مجبرا في بعض الأحيان على التعليق في مواضيع لا تمثل قناعاته.
نال عبد السلام حجي شرف التعليق على الأحداث السياسية والوطنية، يوميا، بعد عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى. وفي عز اندماجه في هذه العملية التي أججت أحاسيس المغاربة في ذلك الوقت، اقتُرح اسمه لكي يكون رئيسا لقسم الصحافة والإعلام، في ديوان الوزير الأول البكاي امبارك الهبيل، في أول حكومة مغربية. ليدخل التاريخ مرة أخرى باعتباره أول مغربي يشغل هذا المنصب في تاريخ المغرب المستقل.
الجيل السابق من الصحافيين يعرفون عبد السلام حجي باعتباره رجل إدارة، بحكم المهام التي شغلها في ديوان وزارة الخارجية خلال سنوات الستينيات، ثم مسؤولا في وزارة الإعلام.
عندما اشتغل حجي في الإدارة، قبل وفاته سنة 1982، تفرغ لترجمة عدد من المؤلفات الفرنسية عن المغرب، وكان أيضا أول من يُترجم خطابات الملك الراحل الحسن الثاني إلى الفرنسية، بالإضافة إلى التعليق الصوتي على عدد من الوثائقيات.
حجي واحد من الذين انقرضوا مع زمن سيطرة الورق، وتحول بين اسمه وبين الواجهة طبقات من الغبار، هو نفسه الغبار المتراكم حاليا على الأرشيف في الإدارات التي دفنت الكثيرين من أمثاله، لينطبق عليه في الأخير عنوان مجلته الأدبية، مع إضافة بسيطة: هنا «كان» كل شيء.