عاش الإمام الشافعي يتنقل بين أكثر من بلد، ولكن الحقيقة الباقية أن مولده كان في أرض غزة، وأن مماته كان في أرض المحروسة.
والشيء المدهش في سيرته كلها أنه رحل في الرابعة والخمسين، وأنه عاش منها خمسين سنة في القرن الثاني الهجري، وأربع سنوات في القرن الثالث.. ولا بد أن كثيرين سوف يتساءلون: كيف أنجز الرجل هذا كله في هذه السنوات القليلة؟
هذا ما يخص حياته.. أمام ما يضعه في إطار واحد مع بقية الأئمة الأربعة فهو شيء أغرب، لأنهم تتابعوا في الحياة وفي الممات، وكأنهم كانوا على موعد للظهور في فترة زمنية واحدة، ثم الاختفاء خلال الفترة الزمنية نفسها، التي لا تكاد تزيد على القرن ونصف القرن.
فالأول منهم جاء إلى الدنيا قبل انتهاء القرن الهجري الأول بعشرين سنة، والرابع غادرها في 241 من الهجرة، وفي ما بين التاريخين عاشوا جميعا وماتوا، فكأنهم تعاهدوا على أن يظهروا ويختفوا بين هاتين السنتين.
كل هذا الفقه الذي ملأ الدنيا ظهر متتاليا دون انقطاع، بل إن بعضهم عايش البعض الآخر وراسله في حياته وأخذ منه وأعطاه.
وإذا تأملت المواقع التي جاؤوا فيها إلى الدنيا على الخريطة، ستكتشف أنهم رسموا في الميلاد والممات ما يشبه الدائرة، وأنهم عاشوا في داخل هذه الدائرة، من أول الإمام الأعظم «أبو حنيفة النعمان» الذي ظهر في البصرة، ثم الإمام «مالك» في المدينة المنورة.
ومن بعده الشافعي في أرض فلسطين، ثم الإمام «أحمد بن حنبل» الذي أغلق الدائرة عندما ظهر في العراق.. وهكذا يتصل محيط الدائرة ويكتمل، وهكذا يدور الأربعة ويتحركون في داخل إطارها، وكأنهم ذرات حائرة في داخل الخلية الحية.
وقد اشتهر كل واحد من الأربعة بفقهه الخاص، إلا الإمام الشافعي الذي اشتهر بفقهين: واحد في العراق، حيث ذهب ذات يوم واستقر لفترة، وآخر في مصر، حيث جاء ليعيش ويموت.. ولا يعرف لماذا ترك فقها في هذين البلدين وفقط..
فلقد ذهب إلى اليمن في ما ذهب، وسافر إلى الجزيرة العربية في ما سافر، واستقر فيهما سنوات، ولكنه لم يشأ أن يترك فقها في اليمن، ولا ترك فقها في الجزيرة، وإنما كان الفقه هنا في بلاد النيل، وهناك في بلال الرافدين.. دجلة والفرات.
وكانت «الرسالة» في الفقهين أن هذا الدين يُسر، وأنه يكون حيث يكون صالح الناس، وأن التشدد ليس من نصوص الدين ذاتها في شيء، ولكن التشدد هو من بعض الذين يحملون الدين، والذين إذا تصرفوا خلطوا بين سلوكهم وبين ما يعتنقونه، فيختلط الأمر على الذين لا يفرقون بين الديانة وبين حاملها.
سليمان جودة