شوف تشوف

الرأي

هل يمكن للإنسان أن يعمر قرونا؟

بقلم: خالص جلبي

يقول المؤلف (روي . ل . والفورد)، صاحب كتاب «فترة الحياة القصوى»، إن متوسط عمر الإنسان كان في روما القديمة دون 30 سنة، وارتفع في أمريكا عام 1900 م إلى 45 عاما، ثم قفز عام 1960م إلى 60 سنة في الدول الصناعية، ويبدو من قائمة الوفيات لعام 1860 م أن مرض السل كان يحصد الأرواح بالدرجة الأولى كسبب أول للوفاة (19,8 في المائة)، يتلوه الإسهالات والالتهابات المعوية (15 في المائة)، ولا ننسى الكوليرا (6,4 في المائة)، وفي الدرجة العاشرة الالتهاب الكلوي (2,4 في المائة)، ولم يظهر السرطان على السطح بعد. وفي عام 1900 م كان الالتهاب الرئوي وأمراض الصدر من أشنع الأمراض التي احتلت الصدارة كسبب أول للوفاة (14,4 في المائة)، (لنتذكر العديد من الفلاسفة الذين قضوا فيها مثل سبينوزا، وأذكر أنا من عائلتي من شارف على الهلاك منها، وجيل والدي عانى منها حتى تم الوصول إلى المركب الثلاثي في القضاء عليه = إيزونيازيد والباس والستربتومايسين)، بعدها تأتي التهابات الأمعاء (8,1 في المائة)، وظهر السرطان في الدرجة التاسعة (3,7 في المائة). (كل جيل بمرض يسمه) وفي نهاية السلم الأمراض الوبائية، وبالطبع فإن أمراضا مثل التوحد لم تأخذ مكانها في الأرشفة بعد (بل حتى نحن حين درسنا الأمراض الخلقية أو الجينية عرفنا المنجلية والمنغولية ولم نعرف التوحد، وهو اليوم يضرب كوريا الجنوبية بمعدل واحد من كل أربعين وأمريكا واحد من كل 68 طفلا)!
أما عام 1970 م فقد انقلبت النسب وصعدت إلى السطح أمراض القلب بالدرجة الأولى (38,3 في المائة)، وهنا أطل السرطان برأسه (17,2 في المائة)، وجلطات الدماغ ـ الستروك «Stroke» (10,8 في المائة)، ونزلت التهابات الرئة القاتلة إلى الدرجة الرابعة (3,6 في المائة). ثم ظهرت حوادث الطرق والانتحار (3,1 في المائة) وهو مرض عجيب! وفي النهاية تشمعات الكبد من معاقرة الخمرة فالموت (1,6 في المائة).
وتتراوح أعمار الكائنات عموما، وفق قوانين بيولوجية، لعل أهمها معدل ضربات القلب؛ فكل كائن منح مليار ضربة في حياته استهلكها كيفما يريد، بين الفأر بـ500 ضربة في الدقيقة والسلحفاة بـ20 ضربة، وهكذا فالسلحفاة يضرب قلبها ببطء وتعيش 150 سنة، والفيل 100 إلى 120 سنة، والغوريلا 55 عاما، والحوت 50 عاما، والقطة 30 عاما في المتوسط، والأسد 25 عاما مع كل جبروته، والأرنب 15 سنة، والخفاش 13 والجرذ 4 سنوات أما الذبابة فهي قصيرة العمر ـ لحسن الحظ ـ فهي تعمر أسابيع، وضاعف الله عمر الإنسان وباركه على نحو استثنائي، وقلبه يضرب في المتوسط 70 ضربة في الدقيقة، أي في الساعة 4200 ضربة، وفي اليوم مائة ألف، أما في السنة فيصل إلى 36 مليونا وقريبا من 800 ألف ضربة إضافية، وهكذا ففي العمر المتوسط يصل عدد الضربات إلى أكثر من مليارين! والذي رفع عمر الإنسان أربعة عناصر: النظافة، نظام التغذية، أسلوب الحياة والعناية الطبية.
وأظهرت الإحصائيات أن من يعمر إلى 55 سنة فهو مرشح أن يعيش 20 عاما إضافية عند الرجال (20,6)، وتزيده المرأة بست سنوات فتعيش حتى 76 عاما (26,2)؛ هذا إن لم يكن صاحبها معتلا بعلة من مرض. ومن عاش حتى السبعين فليهنأ فأمامه أكثر من 11 عاما إضافية (11,1)، والمرأة 15 عاما (14,7). ومن عمّر حتى عمر الـ85 عاما فهو غالبا سيقفز إلى ما فوق التسعين ليكون شاهد القرن، ومن يكتب هذه الأسطر قد تجاوز السبعين فادعوا له بطول العمر لمزيد من الإنتاج، وهو عاكف على خط سيرة حياته بعنوان «محطات»، فقد تقلب بين القارات والثقافات، كما حصل مع إبرهيم فهرب من النمرود البعثي إلى يوم البعث وعايش التيوتون، ثم الأعراب وأخيرا القارة السمراء وأرض البعد والبرد كندا.
أما المرأة فهي كالعادة تعمر ست سنوات إضافية، ما جعل المجلة الألمانية «المرآة Der Spiegel» تنعت الرجال بالجنس الهش. وتظهر الإحصاءات الأنثروبولوجية أن متوسط عمر الإنسان قبل 200 ألف سنة مقارنة مع أيامنا ازداد بمقدار الضعف، فلم يكن أمامه من عمر مديد بين وحوش مكشرة وحياة بئيسة وتغذية سيئة وخوف دائم ومرض داهم. وهناك نظرية (المقص) التي تحدد العمر من خلال الشحوم البروتينية التي تعمر الدم (Lipoproteins)، وهي نوعان الواطية والعالية (LDL .HDL)، والواطية هي الخطيرة وتقرر مصير الإنسان. والنظرية باختصار أن الواطية إذا ارتفعت والعالية انخفضت، كانتا مثل جناحي المقص فقصرت الأعمار وقتلت صاحبها، وفي القرآن «وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب». وبالعكس لنتصور طرفي المقص بارتفاع العالية علوا وانخفاض الواطية سفلا، فقد انفرج جناحا المقص فانفرجت الحياة. وهكذا فكل انخفاض في المنخفض (الواطية LDL) وارتفاع في البروتينات الشحمية علوا، فقد تحرر الإنسان من حواف المقص الذي يقص الحياة ويقصم العمر. وهكذا فـ«من نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون». وطوبى لمن فارق الخمر والدخان والتوتر وعاش بسلام آمنين.
بقي أن نضيف أن الطب وضع يده على سر امتداد الحياة من خلال الكروموسومات، فإن ضمن استمرارها فقد يعمر أحدنا قرونا، ولا غرابة فقد عمر نوح ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى