هل يلغي أردوغان زيارته لواشنطن؟
عبد الباري عطوان
من المفترض أن يقوم الرئيس التركي بزيارة رسمية إلى واشنطن حوالي منتصف الشهر الحالي، تلبية لدعوة الرئيس دونالد ترامب، لكن ثلاثة مسؤولين أتراك أكدوا اليوم أن هذه الزيارة قد تلغى احتجاجا على تصنيف مجلس النواب الأمريكي لقتل الأرمن قبل مائة عام بأنه «إبادة جماعية» والتهديد بفرض عقوبات أمريكية على تركيا. السبب الآخر الذي لا يقل أهمية وخطورة ويدفع باتجاه الإلغاء، هو الرسالة التي بعث بها الرئيس ترامب إلى نظيره التركي يوم التاسع من الشهر الماضي، احتجاجا على الهجوم التركي على مواقع الأكراد في شمال سوريا، واحتوت على تطاول شخصي مهين، تمثل في وصفه للرئيس أردوغان بالعنيد والأحمق، والتهديد بتدمير الاقتصاد التركي، وهو تصرف غير مسبوق في الأعراف الدولية، ويخرج عن المعايير الدبلوماسية في التعاطي بين قادة الدول. هناك وجهتا نظر تركيتان حول هذه المسألة: الأولى: تقول إن الرئيس أردوغان سيمضي قدما في هذه الزيارة، وفي موعدها المحدد، لأنه لا يريد أي تصعيد في العلاقات مع إدارة الرئيس ترامب ينعكس سلبا على الاقتصاد التركي الذي يواجه أزمة كبيرة هذه الأيام، وما يؤكد وجهة النظر هذه أن الرئيس أردوغان تراجع عن قراره برفض استقبال الوفد الأمريكي الذي زار أنقرة قبل أسبوعين برئاسة مايك بنس، نائب الرئيس، ومايك بومبيو، وزير الخارجية، وإدلاء السيد إسماعيل دمير، رئيس هيئة الصناعات الدفاعية التركية، بتصريح مُفاجئ، وفي توقيت مدروس، قال فيه إن تسليم الدفعة الثانية من منظومات صواريخ «إس 400» الروسية قد يتأجل بسبب خلافات بين البلدين، وربما يأتي هذا التأجيل لتوفير أجواء أفضل لزيارة الرئيس أردوغان، وإبقاء شعرة معاوية مع الإدارة الأمريكية.
الثانية: احتمالات إقدام الرئيس أردوغان على إلغاء هذه الزيارة تبدو كبيرة من وجهة نظر المعسكر الثاني المؤيد لهذه الخطوة، فالرئيس التركي شعر بإهانة كبيرة من رسالة ترامب وما ورد فيها من تطاول وأوصاف غير لائقة، وعبر عن هذه الإهانة علنيا عندما قال إن الرد عليها في الوقت الراهن ليس أولوية، ولكنه سيأتي حتما في الوقت المناسب.
ذهاب الرئيس أردوغان إلى واشنطن ودون تقديم أي تنازلات للمطالب الأمريكية بسحب قواته من شمال سوريا، وعدم الدخول في مواجهات مع قوات سوريا الديمقراطية الحليفة لواشنطن، والتخلي عن صفقة صواريخ «إس 400» الروسية قد يؤدي إلى تدهور أكبر في العلاقات مع الدولة المضيفة، والرئيس ترامب تحديدا، وعدم ذهابه، أو بالأحرى مقاطعته، قد يصعد من حدة المواجهة بين البلدين، ويعجل بفرض عقوبات اقتصادية أمريكية على أنقرة كخطوة أولى، وربما إلغاء عضويتها في حلف «الناتو». سليمان صويلو، وزير الداخلية التركي، هدد يوم الاثنين بترحيل جميع عناصر «داعش» إلى بلدانهم، والأوربية والأمريكية منها، بِما في ذلك من جرى إسقاط الجنسية عنهم، وقال إن تركيا ليست فندقا لإقامة هذه العناصر، وقبلها لوح الرئيس أردوغان بفتح بوابات الهجرة إلى أوربا أمام اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، إذا لم تحصل بلاده على دعم مالي وسياسي في مقابل عدم الإقدام على هذه الخطوة، وهذه إشارة إلى احتمالات حدوث تصعيد من قبل الدول الغربية ضد تركيا، والاستعداد لاستخدام كل الأوراق في مواجهتها.
أصدقاء تركيا يتناقصون بينما يتزايد عدد أعدائها بشكل مضطرد هذه الأيام، وانضمام أمريكي إليهم، أي معسكر الأعداء، يتطلب تغييرات «ثورية» في سياساتها الخارجية، وأول تحرك في هذا الصدد يجب أن يكون باتجاه الشرق، وسوريا على وجه التحديد، لأن تركيا مهددة بمواجهة سيناريو التفتيت نفسه الذي حاولت تطبيقه أمريكا في الجوار السوري. أذكر أنني سألت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عن الأسباب التي تدفعه إلى إرسال برقيات تهنئة إلى ملوك وأمراء دول الخليج الذين قاطعوه وحاصروه بعد غزو العراق للكويت، وهو يدرك جيدا أنهم لن يردوا عليها؟ أجاب بعد «تنهيدة» تعكس حسرته: «أنا أفعل هذا من أجل شعبي وقضيته ولا تهمني كرامتي الشخصية، بقدر ما تهمني مصالح شعبي وكرامته».
لسنا في موضع تقديم النصح للرئيس أردوغان، ولكننا نعتقد أن زيارته إلى واشنطن لا تخدمه شخصيا ولا تخدم مصالح الشعب التركي، فمن يهين رئيس تركيا يهين شعبها، أو هكذا نرى الأمور من زاوية إرثنا العقائدي الإسلامي وتراثنا القيمي والأخلاقي.
مكان تركيا الحقيقي في قلب الشرق، فالعالم الغربي لا يمكن أن ينسى لها وصول قواتها إلى فيينا، كما لن ينسى لها إمبراطوريتها التي امتدت لأكثر من 500 عام، وحكمت نصف أوربا الشرقية، تركيا المقبولة هي تركيا الضعيفة المهانة المستسلمة المعتمدة على الغرب، والخادمة لمصالحه العسكرية والأمنية، والعكس صحيح.