هل يعرف المغاربة أين دُفنت شخصيات صنعت التاريخ؟
وزراء ودبلوماسيون دفنوا في مقابر هامشية
يونس جنوحي
«قد يبدو الأمر لغزا، لكن الحقيقة أن تاريخ المغرب تتزاحم فيه قصص لقبور لا تليق بأصحابها. والسبب أن مناسبة الموت كانت دائما فرصة للانتقام من المتوفين خصوصا إذا كان لديهم أتباع ومريدون.
كان هناك دائما من ليس في مصلحتهم أن يتم التشكيك في هوية المدفونين، خصوصا في الأضرحة الواقعة في الأماكن النائية.
وللذين يجهلون قيمة هذه الأضرحة وحضورها في حياة عموم المغاربة قبل قرن ونصف تقريبا. يكفي التدقيق في الكتابات الاستعمارية التي تناولت حياة المغاربة، إذ أن الباحث الفرنسي الشهير السيد «دوتي» خصص حيزا هاما من بحثه الموسع عن المغرب خلال القرن 19، لظاهرة الأضرحة وهوية المدفونين الذين شكلوا مزارات في مختلف الاتجاهات.
كان المخزن، يتخوف من أن يتحول معارضوه إلى أولياء مستقبليين أو أبطال تتحول قبورهم إلى مزارات. لذلك كانت نهاية من رفعوا السلاح في وجه الدولة، مثل «بوحمارة» وقياد الجنوب الشرقي وغيرهم، مفجعة ولا أحد اهتم بموضع قبورهم»
صنعوا التاريخ.. ولا أحد يعرف «مثواهم الأخير»
هل تعرفون مثلا أين دفن المولى إسماعيل؟ لا أحد تطرق إلى مكان قبر هذا السلطان العلوي الذي وصل اسمه إلى العالمية. وحتى لو كان قبره معروفا بالنسبة لبعض الباحثين والمهتمين بالتاريخ، إلا أن الرأي العام المغربي لا يعرف معلومات كافية هذه الشخصية التي شاركت في صناعة تاريخ المغرب.
علماء مغاربة أيضا وصلوا إلى العالمية في الطب والفلك، لا نعرف اليوم للأسف مكان قبورهم، ولا إن كانت لديهم أضرحة في مكان ما، أم أنهم دفنوا في مقابر عادية من تلك التي يتجدد الدفن فيها كل قرن، وربما يرقد الآن موتى آخرون مكانهم. كل شيء ممكن في النهاية.
شككت بعض الأصوات مؤخرا في ضريح ابن بطوطة في مدينة طنجة، وانبرى الغيورون على ذكرى الرجل الذي أوصل بدوره المغرب إلى العالمية قبل قرون طويلة ليؤكدوا أنه مدفون فعلا في مدينة طنجة وأن ضريحه يشكل مزارا سنويا للشغوفين بالسفر والترحال، وكأنهم يأتون إلى طنجة خصيصا لتحية ذكرى ملهمهم الذي قضى قسطا كبيرا من حياته ماشيا على الأقدام لاكتشاف آسيا قادما إليها من أقصى المغرب. ولا يزال اليوم المستكشفون الهنود والصينيون يتحدثون عن أثر ابن بطوطة المغربي في تاريخهم.
هذا التشكيك في قبر الرجل، قاد بعض المؤثرين في الجزائر إلى الاعتقاد بأن ابن بطوطة جزائريا وليس مغربيا، رغم أن كتاباته وأثره يؤكد أنه مغربي، لكن مسألة التشكيك في قبره، فتحت باب تزوير الحقائق على مصراعيه.
وحتى لا نذهب بعيدا في التاريخ، إذا تأملنا قصص وزراء ومسؤولين مغاربة، نجد أن قبورهم اليوم غير معروفة نهائيا.
أين يرقد مثلا مؤسسو القطاعات الحيوية في المغرب بعد الاستقلال والذين لجأت الدولة إلى خدماتهم لكي تنطلق حياة المؤسسات الوطنية بها بعد الاستقلال. يتعلق الأمر بمحمد ليوسي أول وزير داخلية للمغرب بعد الاستقلال، ومحمد الغزاوي الثري الاستقلالي الذي وصل إلى العالمية وكان صديقا لمشاهير العالم، وأسس الإدارة العامة للأمن الوطني، لكن لا أحد يعلم كيف انتهى هذا الرجل الذي أثر بقوة في مرحلة حساسة وحاسمة من تاريخ المغرب الحديث. وبالكاد يذكر اسمه الآن في التحقيقات والمذكرات التي تتناول مرحلة استقلال المغرب واغتيالات قدماء المقاومة.
إذا تأملنا الوضع، نجد أن عددا من الشخصيات التي شغلت الناس وصنعت عناوين الصحافة، لم تنل ما تستحقه لكي تكون قبور أصحابها معروفة، كما هي العادة في أماكن أخرى من العالم.
يبدو أن القبور في النهاية تعيش أكثر من أصحابها. ففي إسبانيا، لا يزال قبر الجنرال فرانكو موضوعا مثيرا للمواطنين الإسبان، بعد أن تم اقتراح نقل جثمانه من مكانه الرسمي حيث يزوره السياح، إلى مقبرة عائلية صغيرة لعائلة فرانكو في محاولة لإبعاد شبحه عن تاريخ الإسبان.
نفس الأمر وقع لقبر المقيم العام ليوطي الذي أوصى بأن يدفن في المغرب. وهو ما تم فعلا في ثلاثينيات القرن الماضي. لكن المثير أن عائلته خرقت الوصية وتم نقل جثمانه في عهد الملك الراحل الحسن الثاني إلى فرنسا رغم أن رغبة الرجل كانت واضحة، وهي أن يُدفن في المغرب.
عندما تحول قبره إلى فرنسا، أصبحت ذكراه غير حاضرة إلا في الأرشيف بطبيعة الحال؟
فهل العادة المغربية القديمة لا تخرج أيضا عن هذا السياق؟ وإلا.. بماذا تفسرون غياب قبور تليق بحجم الأسماء التي تسكن في جوفها؟ التاريخ لا يرحم أحدا. هذه هي الخلاصة.
لماذا يشكك المغاربة مؤخرا في هوية المدفونين بالأضرحة؟
هناك قصص كثيرة يتم تداولها في ثقافتنا الشعبية عن «مقالب» تعرض لها سكان مناطق معينة وتلاعب أحد ما بهوية المدفونين بها، والذين تحولوا إلى أولياء أقيم لهم مزار يحج إليه آلاف المريدين كل عام.
بعض هذه القصص تتجاوز حدود التنكيت والسخرية ويتم تداولها على أنها واقع. لكن لا أحد بطبيعة الحال يستطيع الوصول إلى تلك المقابر، والتحقيق في هوية المدفونين أسفل ترابها.
قد يبدو الأمر لغزا، لكن الحقيقة أن تاريخ المغرب تتزاحم فيه قصص من هذا النوع. والسبب أن مناسبة الموت كانت دائما فرصة للانتقام من المتوفين خصوصا إذا كان لديهم أتباع ومريدون.
كان هناك دائما من ليس في مصلحتهم أن يتم التشكيك في هوية المدفونين، خصوصا في الأضرحة الواقعة في الأماكن النائية.
وللذين يجهلون قيمة هذه الأضرحة وحضورها في حياة عموم المغاربة قبل قرن ونصف تقريبا. يكفي التدقيق في الكتابات الاستعمارية التي تناولت حياة المغاربة، إذ أن الباحث الفرنسي الشهير السيد «دوتي» خصص حيزا هاما من بحثه الموسع عن المغرب خلال القرن 19، لظاهرة الأضرحة وهوية المدفونين الذين شكلوا مزارات في مختلف الاتجاهات.
كان المخزن، يتخوف من أن يتحول معارضوه إلى أولياء مستقبليين أو أبطال تتحول قبورهم إلى مزارات. لذلك كانت نهاية من رفعوا السلاح في وجه الدولة، مثل «بوحمارة» وقياد الجنوب الشرقي وغيرهم، مفجعة ولا أحد اهتم بموضع قبورهم. الباشا الكلاوي نفسه لا أحد اهتم بمكان قبره رغم أنه وصل إلى العالمية وكان يحكم حيزا مهما من الجغرافيا المغربية بقبضة من حديد، بل وتدخل في صناعة منعطف حاسم من تاريخ المغرب. لكن قبره اليوم يبقى مزارا عائليا فقط، وليس هناك أي اهتمام شعبي بالمكان الذي دُفن فيه الباشا.
هذه تفاصيل سوف نعود إليها.
مسألة التشكيك في هوية المدفونين في المقابر، خصوصا الشخصيات التاريخية، ليست في النهاية إلى تحصيل حاصل كما قال الباحث البريطاني «آريان بارتن» سنة 1978 في تقديم كتابه عن ظواهر من تاريخ المغرب الحديث وعلاقة بريطانيا بالمغاربة: «لديهم في المغرب كل المقومات التاريخية لكي نعتبر بلدهم بلدا عريقا وضاربا في عمق التاريخ. هناك ظواهر مغربية يحتاج فهمها إلى العودة للتاريخ القديم عندما كان المغرب بوابة وحيدة بين أوربا والقارة الافريقية.
ومن بين المفارقات في هذا الباب، أن عددا من الذين عبروا من المغرب دفنوا فيه، وتضاربت المعلومة التاريخية في هذا الإطار. إذ لا نستطيع اليوم الجزم بأن شخصيات تاريخية مهمة دفنت فعلا في المغرب. وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه للتشكيك. وطبعا، هذا تحصيل حاصل، فقد كانت الخطة أن نصل إلى هذا الوضع».
طالما ردد باحثون أجانب آخرون، من جنسيات مختلفة، أن «المخزن» كان يعرف كيف يتعامل مع أعدائه جيدا. والتشكيك اليوم في عدد من المقابر ليس إلا انعكاسا للتضاربات التي عرفها تاريخ المغرب. يحدث هذا في وقت لم تعد الأجيال الجديدة من المغاربة متحمسة كما في السابق للأضرحة والأولياء.
خُدام المخزن.. رجال حكموا المغرب ولا يعلم أحد مكان قبورهم
لا أحد يهتم الآن بمكان قبر الباشا الكلاوي مثلا، رغم أن جنازته كانت حدثا مهما تناقلته كبريات وسائل الإعلام والوكالات العالمية سنة 1956. والأكثر من هذا أن المغرب توصل ببرقيات تعزية من شخصيات عسكرية وسياسية من أوربا وأمريكا تنعي رحيل الباشا.
ورغم كل هذا، فإن قبره لا يشبه قبور رجال الدولة والمسؤولين السابقين في شيء. ولا يختلف عن القبور العائلية الخاصة التي تشيدها العائلات الثرية وتخصصها حصريا لدفن الأقارب وأفراد العائلة فقط.
في أيام وزير الداخلية المغربي إدريس لمحمدي، الذي توفي بدوره سنة 1969، تم تداول قصة مثيرة عن رغبة بعض أصدقاء الباشا الكلاوي زيارة ضريحه في الأشهر الأولى لوفاته سنة 1956. كان هذا الوفد من أصدقاء الباشا يرغبون في أن تكون الطقوس رسمية. أي أن يحضرها صف من القوات العسكرية أو القوات العمومية وأن يوضع إكليل ورد فوق قبر الباشا مع الموسيقى العسكرية. جريا على العادة التي تقام في تلك المناسبات الرسمية. لكن وزير الداخلية الأسبق لم يسمح بإقامة تلك المراسيم، وشاع أنه تلقى تعليمات صارمة في الموضوع لكي لا يسمح بتحويل الزيارة إلى حدث رسمي. وفي المقابل سمح بزيارة المقبرة بطريقة عادية بدون مراسيم.
وهكذا بقي مكان قبر الباشا الكلاوي غير معروف نهائيا للرأي العام المغربي. نفس الأمر يتعلق بقبر محمد بن عرفة الذي كان سلطانا للمغرب عند نفي الملك الراحل محمد الخامس. المعلومات المتوفرة في الموضوع تؤكد أن جثمانه نقل من فرنسا أواسط السبعينيات حيث توفي هناك، ونقل بدون طقوس رسمية إلى مقبرة للعائلة في فاس، يتطلب الوصول إليها المرور عبر أزقة ضيقة للغاية في محيط القصر الملكي لفاس، حيث دفن أقارب الأسرة الملكية لقرون هناك.
أما وزراء الدولة، فالمحظوظون منهم فقط من دفنوا في مقبرة الشهداء، بينما آخرون، عاشوا في قمة المجد ووصلوا إلى هرم السلطة، لكنهم انتهوا سياسيا قبل وفاتهم، ودفنوا بدون طقوس من تلك المراسيم التي تخصص عادة لرجال الدولة، ولم يكرم ذكراهم سوى أقاربهم ومعارفهم.
أولياء اليهود المغاربة.. مزار سنوي للآلاف عبر العالم وتاريخ منقرض
يمكن القول اليوم إن اليهود المغاربة أصبحوا يستطيعون الولوج إلى عدد من المقابر اليهودية بكل أريحية بعد أن تم ترميمها والاهتمام بها حتى لا يندثر جزء مهم من التاريخ المغربي.
آخر تلك المقابر التي جرى ترميمها، مقبرة مدينة المحمدية. في سنة 2018، جرت عملية ترميم المقبرة اليهودية وأعيد افتتاحها بعد أن أغلقت منذ سنة 1960. وصار الآن بإمكان الأسر التي هاجرت من المغرب منذ ذلك التاريخ أن تلج إلى المقبرة لزيارة قبور عائلاتهم المدفونة هناك. وحسب مصدر من اللجنة المصغرة التي أشرفت على ترميم المقبرة فإنها تضم أزيد من خمسة أضرحة لرجال دين يهود لم يكن ممكنا في السابق زيارة أضرحتهم بسبب الإغلاق.
بينما في الرباط، توجد مقابر يهودية دفن بها عدد مهم من رجال الدين اليهود خلال أربعينيات القرن الماضي.
أما أكبر تجمع للأضرحة اليهودية، فيتوزع بين فاس ومنطقة سوس حيث كانت هي الأخرى معقلا لأضرحة الأولياء اليهود الذين كانت لديهم علاقة وطيدة بالدولة المغربية بحكم أنهم كانوا يضبطون ولاء الرعايا اليهود داخل المغرب.
لكن هذا الاستطلاع الذي نشر في صحيفة التايمز سنة 1909، خلق جدلا كبيرا في بريطانيا خصوصا في أوساط اليهود الذين عاشوا في أوربا قبل الحرب العالمية.
جاء فيه أن الصحافي استطاع زيارة أحد رجال الدين اليهود في بيته الصغير لكي يمهد له زيارة المقبرة اليهودية، ويكتب مقاله عنها معززا بالصور. يقول:
في بيت «الربّي» الأكبر بالملاح، تلقيت دعوة ودودة. قبلت زوجته وأبناؤه الكثيرون وبناته كُمي بمجرد ما تجاوزت عتبة بيتهم، أفضل ما في البيت يخصص للضيوف. وضع لي كرسي من الطراز الأوروبي بدعامة لليدين، فيما تحلق حولي الجميع جالسين على الوسائد. أخبروني بوقائع محزنة عن الأحداث الأخيرة، لكن وجوههم كانت سعيدة ومتطلعة لما سيقوم به السلطان الجديد من أجلهم.
في أعلى السطح توجد إطلالة رائعة على فاس، نزلنا مشيا على الأقدام متجاوزين الأحجار البيضاء للمقبرة اليهودية. تمنيت لو أحظى بزيارة لتلك المقبرة، وهو ما كان فعلا بإلحاح من المضيف.
دخلنا إلى المقبرة وأخبرني الرجل بقصص جميع الأولياء والصالحين. وتوقف أمام ضريح، في محرابه شموع كثيرة منبثة. لا بد أنه أحد الأولياء المهمين. جلس «الربّي» المسن على الأرض بمحاذاة الضريح يداعب لحيته الطويلة البيضاء، بينما تنعكس أشعة الشمس في المغيب على وجهه، ليخبرني بصوت مرتعش عن البنت الشهيدة زليخة هشول».
قصة هذه السيدة التي تناولتها الصحيفة، لم تخل من مبالغات، إذ أن العارفين بتاريخ الوجود اليهودي في مدينة فاس يعرفون القصة جيدا. وربما كان خيال كاتبها خصبا لكي يختلق بعض التفاصيل التي لا يوجد أي أثر لها في السرد اليهودي لقصص الأولياء، والذي جمعه يهود مغاربة في عدد من المؤلفات.
إذ أن الصحيفة تقول إن السيدة «زليخة» قطعت جثتها تحت التعذيب لأنها رفضت الالتحاق بحريم القصر في مدينة فاس منذ مئات السنين، لكن رجال الدين اليهود استطاعوا استعادة جثمانها من أحد نوافذ القصر وتم دفنها في مقبرة اليهود وأصبحت من الأولياء. والحقيقة أن الأمر يتعلق بسيدة يهودية كان يشهد لها بالصلاح والكرامات رغم أن المجال الديني عند اليهود يحتكره الرجال، وعند نهاية حياتها تحول قبرها إلى مزار لليهود في فاس، والذين كانوا شهودا على صلاحها وزهدها واجتهادها في العبادات وفض نزاعات الأسر اليهودية في فاس.
جاء في نهاية المقال، تتمة القصة: وفد من «الملاح» يترأسه «الربّي» الأكبر، طلبوا السلطان ورجوه أن يسلمهم ما تبقى من جسد الفتاة بنت إسرائيل. وفي جنح الليل، أنزلت البقايا بواسطة حبل من نافذة في القصر، وكان «الربّي» الذي استقبل ما تبقى من جسمها هو جدي. وهو يرقد إلى جانبها هنا.
رجعت إلى الخلف، وأنا محاط بشواهد القبور البيضاء لشعب هذا «الرّبي». صمت محدق يحيط بالمكان. وأغصان الزيتون تبدي بعض الأمل في الأفق يأتي بالسلام إلى هؤلاء. لكن السور الضخم للمدينة يمتد مخترقا تلك القبور».
عسكريون فرنسيون قادوا إبادات 1914 ضد أجدادنا دفنوا بالأطلس!
بعض المعطيات من التاريخ الرسمي الفرنسي تقول إن عددا من الضباط الفرنسيين، الذين تعتبرهم فرنسا أبطال حرب، دفنوا في المغرب. وطالبت هيئات فرنسية مرارا بنقل جثامين تلك الحروب ضد المغاربة بعد 1912، إلى فرنسا باعتبارهم أسدوا خدمات للدولة الفرنسية ويجب استعادة جثامينهم. لكن المشكل أن فرنسا لا تعرف جيدا مكان جميع القبور. إذ وقعت تغيرات كثيرة في الأحداث، وخرجت فرنسا من مناطق متفرقة خصوصا في الأطلس، وسرت أخبار بأن الثوار انتقموا من تلك القبور، رغم أن باحثين أكدوا أن الثورات التي قادتها قبائل الأطلس ضد الاستعمار الفرنسي والتي استمرت من 1914 إلى ثلاثينيات القرن الماضي، لا يمكن أن تؤذي حرمة القبور، وفسروا الأمر بكون المغاربة المسلمين يقدسون حرمة الموتى ولا يمكن أن يتلاعبوا بجثامين الموتى الفرنسيين. لكن مسألة إخفاء معالم القبور تبقى ممكنة بل ومن خدع الحرب ضد فرنسا.
أحد الذين شهدوا على عمليات دفن عسكريين فرنسيين في المغرب هو الصحافي الفرنسي غوستاف بابين. هذا الأخير كان ربما الصحافي الفرنسي الوحيد الذي شارك في الحرب الفرنسية ضد المغاربة في منطقة الأطلس، إذ أجبر على أداء الخدمة العسكرية في المغرب لأن جل العسكريين تم استدعاؤهم إلى الحرب العالمية الأولى في نفس السنة، وتم نقل متطوعين جدد في الجيش إلى المغرب لسد الخصاص.
يقول هذا الصحافي الفرنسي الذي عمل مرافقا وسكرتيرا لـ «الجنرال دوغان» إن فرنسا دفنت قتلاها في منطقة الأطلس بتعليمات من الجنرال لأن الجيش لم يكن يتوفر على ميزانيات كافية لنقل كل الجثامين.
يقول مؤكدا أن الباشا الكلاوي شخصيا أشرف على دفن القتلى من الجيش الفرنسي لأنه كان حليفا قويا للجنرال دوغان أثناء حربه ضد قبائل الأطلس المتمردين على سلطة مراكش: «رغم أن الرعب كان يحوم في الأرجاء، وكان الباشا يحاول كسره عبثا، إلا أنه مع ذلك وجب الاعتراف بأنه ورجاله كانوا على قدر كبير من الشجاعة.
كانوا يريدون بشدة مرافقتنا والمضي معنا قدما. لكن كان يتعين عليه البقاء قرب الولي الصالح، ومراقبة العرافات(..). أبدا! رفض الباشا البقاء.
تركنا إذن في منطقة سيدي بو يحيى جثمان الليوتنان « Beauregard» خلفنا على مضض. تعليمات الكوماندان باسكال أملت هذا الأمر(..). أعضاء الفرق توزعت على المنطقة، وبقية الفريق المتنقل كان عليهم التمركز في أزيلال، حيث سوف تتشكل مستعمرة يتم استدعاؤها للتحرك صوب «واوزيرت». وهي الهدف الرئيسي لكل هذه التحركات.
آخر ظهيرة لنا في بو يحيى كانت مخصصة لتكريم موتانا.
أمام الخيمة التي كانت الجثامين الأربعة الجامدة أسفل الكفن، ممددة داخلها، قام فيلق خاص بتكريم ذكراهم بتقديم الأسلحة، قبل أن تُعزف الأبواق داخل المخيم.
نُظمت جنازة مهيبة قادها الجنرال دوغان بنفسه، مرفوقا بالكولونيل نوغيس، حُرست بالبنادق أثناء نقل الجثامين إلى الدفن. ونُقشت لوحة من الحجارة تأريخا للحدث.
نُقلت الجثامين فوق نفس الأسرة الملطخة بالدماء التي ماتوا فوقها. هي نفسها الأسرّة التي لفظوا فوقها أنفاسهم الأخيرة بشجاعة».
يقول بابين مستحضرا تلك الأجواء الجنائزية إن الجنرال وضع إكليل ورد فوق القبور التي أقيمت وسط أرض الأطلس المُتربة في قلب الخلاء ووضع الصليب فوقها.
كان من بين الموتى أحد المسلمين. يقول بابين إنهم دفنوه أيضا في نفس تلك المراسيم، وراعوا الخصوصية الإسلامية حيث وضعوا جثمانه على جنب، مع مراعاة أن يكون وجهه في اتجاه «الأولياء». هذا ما قاله بابين على الأقل. كان يقصد أن المغاربة كانوا يدفنون الموتى في اتجاه القبلة. لكن يبدو أن الذين شرحوا الأمر ربطوه بالأولياء وشروق الشمس.
اعترف «بابين» أن تلك الطقوس كانت من أفضل المراسيم العسكرية التي حضرها في حياته رغم أن مسرح حدوثها، بالإضافة إلى قساوته الجغرافية، كان من بين أكثر الذكريات العسكرية دموية بالنسبة للفرنسيين.
ماذا كان موقع الباشا الكلاوي في هذه الدوامة؟ يقول بابين: «ألقى الكولونيل نوغيس بضع كلمات، أبّن فيها القتلى الأربعة وأثنى على تضحيتهم من أجل فرنسا. انطلقت الأبواق في الأجواء مرة أخرى (..).
كان الباشا التهامي الكلاوي، ببراعته الفطرية التي تجعل منه قائدا حقيقيا، قد تعهد بإعادة الاعتبار لهؤلاء القتلى الأبطال. كان معه أخوه «سي حاسّي» وابن أخيه «سي حمو»، ثم القايد أوشطو. كانوا ينظمون جنائزهم الخاصة أيضا لدفن قتلاهم. كان الباشا مستغرقا في التفكير. وكان تبدو على محياه مخاوفه وقلقه أيضا.. (..). كان يستحضر ذكرياته أيضا، والحفاوة التي رحب بها بضيوف قصره بمراكش، بتلك الابتسامة الحضارية التي يرسمها على وجهه».