هل يشعل إعدام الشيخ النمر حربا طائفية؟
لو نظرنا، وبعين المراقب، إلى ردود الفعل الرسمية والشعبية على الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة السعودية، وتمثلت في إعدام 47 متهما بالارهاب، أبرزهم رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر، والسني فارس آل شويل، نجد أن الأول، أي الشيخ النمر، انتفضت دول وشعوب للاحتجاج على إعدامه، وهو الذي حصر أنشطته في معارضة النظام وممارساته وتهميشه لطائفته بالطرق السلمية، بينما لم يتحرك أحد للاحتجاج على إعدام 46 آخرين من السنة، وبعضهم كان دوره في “الارهاب” هامشيا، خوفا من مواجهة الاتهام بالتعاطف مع تنظيم “القاعدة”، أو الوقوف في خندقه، والقاسم المشترك أن جميع المعدمين أدينوا بمحاكمات تفتقر إلى العدل والإجراءات المتبعة في الدفاع عن النفس.
لا نعتقد أن السلطات السعودية على هذه الدرجة من الغباء، بحيث تقدم على أكبر “وجبة” من الإعدامات بهذه الضخامة في يوم واحد، وفي بداية العام الجديد، منذ إعدامها حوالي 60 شخصا مع زعيمهم جهيمان العتيبي عام 1980، دون أن تكون قد فكرت جيدا في كل التبعات، وتوقعت ردود الفعل الغاضبة من إيران وحزب الله، وأبناء الطائفة الشيعية في المنطقة والعالم، ودون أن تتخذ الاحتياطات لعمليات انتقامية من تنظيم “القاعدة” ثأرا لرجاله المعدمين، لا بد أن هناك أهدافا محددة خلف هذه الخطوة السعودية المفاجئة، وإن كنا نقر مسبقا بأن جوانب السياسة السعودية في الأشهر الأخيرة تتسم بالارتباك وردود الفعل المتسرعة.
الأمر المؤكد أن من اتخذ قرار تنفيذ الإعدام هذا تعمد توجيه رسالة “استفزازية” لخصومه في الداخل السعودي، والخارج الاقليمي، لتصعيد التوتر الطائفي المتفاقم في المنطقة، وتعميق حالة الاستفزاز المذهبي بين السنة والشيعة، ونقل إيران وأنصارها، بطريقة أو بأخرى، من حروب بالإنابة مع المملكة العربية السعودية، إلى حروب مباشرة، وبما يؤدي إلى حشد الأغلبية السنية خلف المملكة وقيادتها، في كل حروبها، الحالي منها والقادم، وليس هناك أقوى من الورقة الطائفية في هذا الصدد.
فلم يكن من قبيل الصدفة أن عمليات الإعدام الجماعية هذه جاءت بعد إعلان الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد، وصاحب القرار الأول في الأسرة الحاكمة، تأسيس تحالف إسلامي سني عسكري وأمني وسياسي من 34 دولة، وبعد أيام معدودة من تشكيل مجلس تعاون استراتيجي مع تركيا، الدولة السنية الحليفة الأخرى، أثناء زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للرياض، فالاعدامات التي صدرت أحكامها في حق المنفذة فيهم قبل عشر سنوات في بعض الحالات (المتهمين بتفجيرات الرياض من أنصار القاعدة)، أو قبل عامين (الشيخ النمر)، يمكن أن يؤجل تنفيذها أشهرا أو أعواما أخرى.
الأوضاع الداخلية في المملكة العربية السعودية تشهد في الوقت الراهن حالة من الغليان، سواء على صعيد الأسرة الحاكمة، أو على الصعيد الشعبي، على أرضية التدخل السعودي في اليمن خاصة، وتآكل المداخيل والأرصدة السعودية في حربها، ومحاولة “شراء” دعم حكومات للتورط السعودي فيها، ورفع الدعم عن بعض السلع الأساسية (المحروقات والماء والكهرباء)، وارتفاع العجز في الميزانية.
أنا شخصيا تلقيت اتصالات من أعضاء في الأسرة الحاكمة السعودية، بشكل مباشر أو غير مباشر، تتحدث عن معارضتها للتورط السعودي في حرب اليمن، والاندفاع بشكل غير مسبوق ماليا وعسكريا في الحرب السورية، ومعاداة دول عظمى مثل روسيا، وحالة الحرد من الولايات المتحدة، مثلما عبر لي بعض السعوديين الذين ينتمون إلى “النخبة” عن الشي نفسه في جلسات خاصة.
ولا نبالغ إذا قلنا أن الرسالة التي يريد صاحب القرار السعودي توجيهها إلى الداخل من خلال تنفيذ هذه الإعدامات هي رسالة “تهديد”، وليس تحذير فقط، سواء للأغلبية السنية أو الأقلية الشيعية معا، تقول مفرداتها بأن القبضة الحديدية السعودية لن تتهاون مع أي أحد يعارض النظام سلميا أو عسكريا، ولا يمكن تكرار ما حدث في تونس أو القاهرة أو صنعاء، أي التهاون مع الأصوات التي تريد زعزعة ركائز النظام، أو حتى مجرد التفكير في إطاحته.
بمعنى آخر يمكن القول أن صانع القرار السعودي يكرر حرفيا تبني الحلول الأمنية التي يتبعها الرئيس السوري بشار الأسد، الذي ويا للمفارقة، يدعم المعارضة السورية المسلحة بالمال والسلاح للإطاحة به، مع تسليمنا مسبقا بأن المقارنة هنا ليست في مكانها بعد، ولكن البدايات والنوايا، ربما تكون متطابقة، وتقود إلى النتائج نفسها، أو أقل أو أكثر.
السلطات الإيرانية وقعت في مصيدة الاستفزاز السعودي، وتجسد ذلك بكل وضوح في اقتحام متظاهرين السفارة السعودية في طهران وإحراقها، فإيران التي وقعت اتفاقا نوويا مع الدول الست العظمى، وتريد إسقاط تهمة الارهاب، وعدم الانضباط عنها، تمهيدا للعودة إلى المجتمع الدولي أطلقت النار على قدمها، ونسفت هذا التوجه، كليا أو جزئيا، بالسماح بحدوث عملية الاقتحام هذه، التي كان بإمكانها منعها، فمعارضة عملية إعدام الشيخ النمر شيء، واقتحام السفارات شيء آخر، لأن هناك معاهدات دولية تحتم حمايتها، وتلزم جميع الدول الالتزام بها دون استثناء.
المظاهرات التي انطلقت في أكثر من مكان احتجاجا على إعدام الشيخ النمر، والتهديدات بالانتقام التي رافقتها من دول وأحزاب ومنظمات قد تتطور وتخرج عن السيطرة، خاصة أن عملية الاعدام هذه جاءت بعد كارثة التدافع في مشعر منى أثناء الحج الأخير، وكانت نسبة كبيرة من ضحاياها من الإيرانيين والحجاج الشيعة، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بما يمكن أن يحدث في الأيام القليلة المقبلة من صدامات ومفاجآت.
في ظل تصاعد هذا التوتر الطائفي بين السعودية وإيران، لا توجد أي وساطات أو تحركات لتطويقه، ومنع تحوله إلى “فتنة” شيعية سنية كبرى يسقط فيها مئات الآلاف من الضحايا من الجانبين، وتدمر مدن وبنى تحتية، وتتبخر مئات المليارات من الدولارات.
لا نعرف مدى نجاح فرص الحرب الطائفية هذه، فتنظيم “القاعدة” في العراق حاول إشعال فتيلها باستهداف الشيعة بسياراته المفخخة، وكرر تنظيم “الدولة الاسلامية” الشيء نفسه، وما زال، ولكن أن تلقي دولة مثل السعودية بكل ثقلها في هذا المضمار فهذا تطور جديد، ويثير العديد من علامات الاستفهام.
السعوديون يلومون إيران دائما، ويحملونها مسؤولية التصعيد الطائفي، وهذا متوقع، ويبررون حربهم في اليمن بمواجهة النفوذ الإيراني، ولكن أصدقاءهم في أمريكا، وعلى لسان أكثر من مسؤول، يرون أن هناك مبالغات في حجم هذا النفوذ، وهذا لا يعني تبرئة إيران مطلقا، فهي دولة إقليمية عظمى، ولها أطماع، وهذا ليس مفاجئا، فتوسيع دائرة النفوذ يشكل قاسما مشتركا بين كل مثيلاتها مثل تركيا والسعودية ومصر.
المنطقة تقف على حافة حرب إقليمية طائفية مذهبية، وتنتظر هذه الحرب عود الثقاب الذي يشعل أوارها، ونأمل أن لا يكون إعدام الشيخ النمر فجر يوم السبت هو المفجر، ولكن الآمال شيء وما يطبخ في الغرف السوداء شيء آخر للأسف.
نحن على عتبة عام جديد ربما يكون الأكثر دموية في تاريخ المنطقة، ومن غير المستبعد أن يكون وقود حروبه الدول التي اعتقدت أنها محصنة من “ثورات” ما يسمى بالربيع العربي، وعملت على تصديرها إلى غيرها.
لسنا من المنجمين، ولن نكون، ولكن ما هو مكتوب على الجدران يشي بالكثير في هذا المضمار، والأيام بيننا.