شوف تشوف

الرأي

هل هو تصحيح جديد لمسار ثورة تونس؟

عبد الإله بلقزيز
أَتت الانتخابات الرئاسية التونسية استثنائية بجميع المقاييس، من حيث التصويت في دورها الثاني، قياسا بالدور الأول وبالانتخابات التشريعية، من حيث الفارق المَهُول في الأصوات الممنوحة لكل من المتنافسين، من حيث الفارق في الإمكانيات المجمدة في الحملة الانتخابيّة بين مرشح يملك المال والحزب والإعلام وآخر (فائز) لا يملكُ شيئا من هذا.
من حيث حماوة التنافس التي أضافت المناظرة التلفزيونية بين المرشحيْن إلى جَمْراتها زَنْدًا، وربما انحسمت بها نتائج الانتخابات (على الأقل بالنسبة إلى جمهور المترددين الذين لم يحسموا خيارهم)، وقبل هذا كله، أتت استثنائية لأن نتائج الدور الأول منها أخرجت من الحلبة الوجوه السياسية المألوفة والقوى الحزبية الماسكة بالحياة السياسية والمؤسسات، في ما يشبه العقاب الجماعي لها على فشلها وخذلانها انتظارات المجتمع منها.
لكنها، أخيرا، أتت استثنائية لأنها المرة الأولى التي سيفوز فيها مرشح أكاديمي مستقل، هو الأستاذ في القانون الدستوري قيس سعيّد، على رجل أعمال حزبي ذي نفوذ ضارب في قطاعات الأعمال والإعلام فوزا ساحقا.
سيقول معارضوه إنه كسب الانتخابات لأن خصمه في المنافسة، المرشح نبيل القرْوي، كان وراء القضبان في سجنه وحُرِم من خوض حملة متوازنة إلا في اليومين السابقين لموعد الصمت الانتخابي.
وهذا صحيح لجهة أنه كان مقيد الحركة بسجنه، ولكن أليس من الصحيح بأن قيس سعيّد لم يخض حملته، هو نفسه، إلا في ذينك اليومين اليتيمين؛ لأنه تقصّد اختيار عدم خوضها ومنافسُه محروم منها، حيث ابتغى أن تكون المنافسة شرعية، والفرص فيها متكافئة لئلا يُسْتَراب في فوزه إن فاز، أو يُطْعَن في شرعية فوزه؟ ألم تُعَدِّل هذه البادرة الأخلاقية الحميدة توازنا كان مختلا لغير صالح المرشح الموقوف فوفرت له فرصةَ التكافؤ المطلوب في المنافسة، قبل أن تسلم السلطات القضائية بحقه في تلك الفرصة المتكافئة على شحيح زمنها المتاح؟
لا علاقة، إذن، لنتائج المنافسة الرئاسية في دورها الثاني بتقييد حرية مرشح فيها، علما أن المرشح إياه لم يمنعه تغييبه في السجن من الحصول على المرتبة الثانية في الدور الأول، والتأهل لخوض الدور الثاني، حتى لا نقول إنها أكسبته شعبية مضاعفة من جمهور ناقم على الطبقة السياسية، معاقِبٍ لرموزها في الدور الأول.
وقد يقولون إن المرشح الفائز استفاد من الاستخدام الكثيف لطلابه، والشباب عامة، لوسائط التواصل الاجتماعي في حشد التأييد الشعبي له. وقد يذهب البعض منهم – وقد ذهب فعلا – إلى الحد الذي يعزو فيه ذلك الفوز إلى تلك الوسائط ومفعولية تأثيرها في آراء الناخبين واتجاهات تلك الآراء، وليس إلى أي عامل آخر.. ولقد يفوت هؤلاء أن الإمكانيات التي توفرها وسائط التواصل الاجتماعي ليست من أحكار أحد، بل هي متاحة للجميع، وخاصة لدى من يملك مفاتيح أخرى غيرها هي: المال والإعلام و«الماكينة» الحزبية، بحيث ترفد حملته وتقوي مفعول الاستخدام لوسائط التواصل. وعليه، يبدو التعلل بـ«الفيسبوك» وغيره ضربا من التحجج بما ليست تتبرر به حقيقة أسباب ذلك الفوز.
نتأدّى من الملاحظتين النقديتين السابقتين إلى استنتاج مفاده أن قراءة دقيقة لنتائج الانتخابات الرئاسية تمتنع، على الحقيقة، إن لم تكن قراءة سياسية تجنب نفسها استسهال الخوض في «التحليل» من باب البحث في ظروف المنافسة ووسائلها المستخدمة، والنأي عن أم المسائل فيها: دلالاتها السياسية. يكفينا، هنا، أن ننبه إلى أمرين: أولهما أنها كنست من المشهد الجسم السياسي الذي احتكر السلطةَ والمجال السياسي، منذ ثورة 14 يناير 2011.
وثانيهما، وهو الأهم، أن من أوصلوا المرشح قيس سعيّد إلى الرئاسة كانوا، في غالبيتهم، صبيانا ومراهقين صغارا إبان ثورة 2011، وهم اليوم شباب جامعي أو متخرج من الجامعات.
وهذا إنما يطلعنا على شأنين متلازمين؛ أن القاعدة الأساس التي صنعت هذه النتائج وساهمت – أثناء الحملة – في صناعتها (قاعدة) مؤلفة من شباب متعلم واع ولد من رحم الثورة؛ وأن هذه القاعدة لم تصوت فحسب لرجل رَمَزَ لديها لقيم بعينها، بل صوتت ضد حقبة سياسية كاملة سيطرت فيها طبقة سياسية أخذت شرعيتها باسم الثورة، لكنها لم تجب – بيمينها ويسارها – عن أي سؤال أو مطلب مما طرحته تلك الثورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى