شوف تشوف

الرأي

هل ننجح في اختبار مراجعة السياسات؟

في 30 يوليوز الماضي نشرت جريدة «الشروق» مقالة للمحلل السياسي جميل مطر انتقد فيها غياب مصر عن الخرائط الجديدة التي تشكلت في المنطقة، خصوصا في علاقاتها بـإيران، وقال صراحة إنها التزمت بصداقات دولية وإقليمية جعلتها تصطف في الجانب المخاصم لإيران، مشيرا إلى الدور الذي لعبته واشنطن في ذلك. وكانت النتيجة أن مصر رغم وزنها الكبير ابتعدت عن متابعة ما يحدث من تطورات داخلية في إيران على مختلف الأصعدة. ودعا الكاتب في ختام مقالته إلى مراجعة مصر لموقفها وتصويب الخطأ الذي وقعت فيه خلال العقود الثلاثة الماضية، بحيث يصبح في مقدورها أن تسهم في تشكيل بيئة إقليمية جديدة في الشرق الأوسط.

هذا الكلام الجديد نسبيا بين المحللين السياسيين المصريين كان له صداه السريع في الساحة السعودية. فقد نشرت صحيفة «الحياة» اللندنية مقالة مؤيدة له يوم 2 غشت للكاتب السعودي البارز داود الشريان، قال فيها ما يلي: ما قاله جميل عن كسب مصر خصومات دول بسبب انحراف سياستها الخارجية وراء صداقات دول كبرى ينطبق على آخرين (لاحظ الإشارة).. ومن يقرأ تاريخ العلاقات العربية التركية والعلاقات العربية الإيرانية خلال العقود الخمسة الماضية سيجد أن تلك العلاقات تتذبذب صعودا وهبوطا استنادا إلى تأثر هذه العلاقة بمصالح ورغبات دول أخرى. وأضاف: ولك أن تتخيل حال الوضع في الشرق الأوسط والخليج تحديدا، لو أن مصر والسعودية ظلتا على علاقة منفتحة مع إيران وتركيا خلال العقود الماضية. لكن الذي حدث أن البلدين فرطا بهذه الفرصة من أجل دول كبرى، وأحيانا دول شقيقة صغيرة تحرض على إيران في العلن، في حين تقيم معها علاقات تصل إلى حد الشراكة. وختم الكاتب مقالته بقوله إن انفتاح السعودية على مصر وإيران والتفاهم معها بشكل مباشر يصب في مصلحة الأمن القومي للبلدين والأمن الإقليمي في المنطقة، فضلا عن أن انفتاح القاهرة على طهران يجب ألا يثير حساسية سعودية، وانفتاح الرياض على أنقرة يجب ألا يغضب مصر، طالما أن البلدين جناحان في جسد واحد.

هذه لغة جديدة في الإعلام المصري والسعودي تتجاوز الخطوط الحمراء التي استقرت في وسائل الإعلام. صحيح أنها لا تعني حدوث أي تغير سياسي في مواقف البلدين، وأن الكاتبين يعبر كل منهما عن رأيه الخاص ولا يحسب على دوائر صنع القرار في مصر أو السعودية، إلا أننا نعلم جيدا أن إطلاق دعوات من ذلك القبيل الذي عبر عنه الكاتبان لم يكن مرحبا به أو غير مسموح به بين السياسيين فضلا عن المثقفين. ناهيك عن أن الاقتراب من الملف من زاوية التقارب ومد الجسور ظل بمثابة مغامرة تكلف صاحبها الكثير وتفتح عليه أبواب التشكيك والتنديد والاتهام، ولا ينبئك في ذلك مثل خبير. وحين تصدر الدعوة عن كاتبين مستقلين نجا كل منهما من لعنة التصنيف وأختام الاعتماد والتنميط، فإن لذلك أهميته الخاصة التي لا تخفى دلالتها. في هذا الصدد أزعم بأن الدعوة التي تم إطلاقها تستدعي عدة ملاحظات منها ما يلي:
– إن مفاجأة الاتفاق بين واشنطن ومعها الدول الكبرى من ناحية وطهران من ناحية ثانية هزت بعض أعراف السياسة الخارجية في الدول العربية والخليجية منها بوجه أخص. وأحدثت الهزة حالة من الإفاقة لدى الجميع، نبهتهم إلى أن ثمة خرائط وتوازنات جديدة في المنطقة، الأمر الذي فتح الأبواب واسعة لمراجعات شملت ما بدا أنه أعراف أو «ثوابت» في المرحلة السابقة. وما عبر عنه الكاتبان يدخل ضمن تلك المراجعات.

– إن المراجعات لا تعني بالضرورة اتفاقا في السياسات، لكنها تعني أمرين بالدرجة الأولى هما إعلاء المصالح الإستراتيجية العليا من ناحية، وترشيد أسلوب إدارة الاختلاف من ناحية ثانية، كما أنها تحتمل من ناحية ثالثة القبول بالاتفاق فيما هو مرحلي مع استمرار الاختلاف حول ما هو نهائي. وهو الحاصل الآن مثلا في علاقة واشنطن مع طهران التي ينطبق عليها ذلك التوصيف. إذ رغم اتفاقهما في الوقت الراهن فإن لكل طرف أهدافه المغايرة في نهاية المطاف.

– إن الكاتبين اتفقا على أن مخاصمة الدول العربية لإيران لم تتم بناء على تقدير وحسابات للمصالح العليا لدول المنطقة بقدر ما كان ذلك تجاوبا وانصياعا -بالدرجة الأولى- لسياسة واشنطن وحساباتها.

– في الحالة المصرية على الأقل، فإن المؤسسة الأمنية -التي كانت لها الكلمة العليا في التعامل مع الملف الإيراني ضمن ملفات أخرى حساسة- أخطأت في الحساب والتقدير، وقدمت المصالح الأمنية الضيقة على اعتبارات الأمن القومي، الأمر الذي أدى إلى تهميش دور مصر وأتاح الفرصة لبناء الأمن الإقليمي في المنطقة بعيدا عنها.

لا أستطيع أن أفصل بين رياح المراجعات التي تلوح في الأفق وبين الزيارة التي قام بها لمصر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ورغم أنها قدمت في الإعلام المصري بأنها استئناف للحوار الإستراتيجي الذي انطلق عام 1988، فإن إشارات عدة دلت على أن الشأن الإقليمي في الزيارة كان نصيبه أوفر من الشأن المحلي. بكلام آخر فإن زيارة الوزير الأمريكي التي استغرقت يوما واحدا ركزت على علاقات مصر بدول الإقليم بأكثر مما تناولت الأوضاع الداخلية في مصر. وهو الجانب الذي أبرزته بعض الصحف المصرية. صحيح أن الرئيس المصري أصدر قانوني مباشرة الحقوق السياسية ومجلس النواب قبل 24 ساعة من وصول كيري، وهو ما قد يكون مجرد مصادفة، إلا أنه يمكن أن يقرأ بحسبانه إشارة إيجابية إلى اعتزام مصر الالتزام بالنهج الديمقراطي، وهو الأمر الذي يثير لغطا من جانب بعض النواب الديمقراطيين في الكونغرس الأمريكي، إلى جانب ملفات أخرى تتعلق بأوضاع حقوق الإنسان وسقف الحريات المتاح في مصر. وهو ما تحدث عنه كيري في مؤتمره الصحفي.

التقرير الذي نشرته «الشروق» للزميلة دينا عزت في 1 غشت ربما كان الأكثر دقة في تغطية زيارة وزير الخارجية الأمريكي. إذ وصفتها بأنها بمثابة «عودة محدودة» للحوار الإستراتيجي بين البلدين الذي بلغ ذروته في تسعينيات القرن الماضي. وأشار التقرير إلى أن كيري سيبحث في القاهرة دور مصر في مواجهة الجماعات الإسلامية المسلحة بالتعاون مع حلفاء أمريكا الإقليميين الآخرين بما في ذلك تركيا وإسرائيل. أضاف أن كيري سيطرح على القاهرة بخاصة خلال لقائه مع الرئيس السيسي آفاقا لتعاون إقليمي يكون للقاهرة وطهران دور واضح فيه، خاصة فيما يتعلق بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ونقل التقرير عن دبلوماسي أمريكي قوله إن الوضع الآن أكثر ملاءمة لترتيب ذلك التعاون، بعدما أخذت إيران على نفسها تعهدات واضحة في إطار التفاوض مع الدول الست بشأن عدم استهداف الأمن القومي لحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل ومصر والسعودية. هي مصادفة لا ريب، أن ترتفع بعض الأصوات في العالم العربي داعية إلى إعادة النظر في المواقف وتغليب الرؤية الإستراتيجية في التعامل مع إيران وتركيا باعتبارهما دولا كبرى محورية في المنطقة، وأن يتزامن ذلك مع جولة وزير الخارجية الأمريكي التي أثارت نفس الموضوع. وهو ما يسوغ لي أن أقول بأن ثمة استشعارا لفض الاشتباك وإنهاء العداوات والاحتراب الداخلي بين الدول المهمة في المنطقة، لأن ثمة خطرا متناميا يهدد الجميع تمثله داعش والجماعات الإرهابية المماثلة.

لا تفوتنا هنا ملاحظة أمرين من الموقف الأمريكي. الأول أن الرئيس باراك أوباما يقترب من انتهاء ولايته الثانية، وهو يسعى جاهدا لتعزيز إنجازاته السياسية التي سيدخل بها إلى تاريخ الولايات المتحدة، وهو ما تمثل حتى الآن في إعادة العلاقات المقطوعة مع كوبا منذ خمسين عاما، وتوقيع الاتفاق النووي مع إيران. يريد أيضا ترتيب أوضاع الشرق الأوسط بحيث تتولى دوله أمرها، لكي ينصرف للتعامل مع التحدي الأكبر الذي باتت تمثله الصين. إذ بالمقارنة فإن صراعات الشرق الأوسط باتت هما هامشيا وفرعيا إذا قورن بالهم الأساسي الذي تلوح به الصين الصاعدة بقوتها الاقتصادية وتطلعاتها السياسية في شرق آسيا.

الأمر الثاني أن الإدارة الأمريكية أدركت أن مؤشرات الصراع العربي الإسرائيلي تراجعت بشكل ملحوظ في المنطقة. وأن تفاهمات إسرائيل المعلنة وغير المعلنة مع بعض الدول العربية المهمة وصلت درجة غير مسبوقة في التنسيق وتبادل المصالح، خصوصا مع مصر، حتى أصبحت إسرائيل تصنف ضمن محور الاعتدال في المنطقة.

هذا الأمر دفع واشنطن إلى تأييد إنهاء عمل القوات متعددة الجنسيات الموجودة في سيناء لضبط الحدود المصرية الإسرائيلية (طبقا لاتفاقية السلام الموقعة عام 1979). إذ اعتبرت أنه لم يعد هناك مبرر لاستمرار وجود تلك القوات في ظل التفاهمات الحاصلة بين مصر وإسرائيل (مصر عارضت الاقتراح).

لسنا نتحدث عن أقدار مكتوبة ولا عن أوضاع مفروضة، ولكن الأكيد أننا بصدد رياح تهب وتفاعلات تلوح في الأفق وسيناريوهات تعد لمستقبل المنطقة التي نحن جزء منها، وعلاقتنا بذلك كله -سلبا أو إيجابا- محكومة بالإرادة السياسية أولا وبمقدار عافيتنا وحصاناتنا على أرض الواقع ثانيا. كما أنها محكومة أيضا بقدرتنا على تحري المصالح الإستراتيجية العليا، وعزوفنا عن الاستدراج إلى التورط في الحسابات الآنية والضيقة. إلا أن السؤال الذي أكرره دائما ولا يمكن تجاهله في هذا السياق هو: هل تستطيع أن تتصالح الحكومات مع محيطها قبل أن تتصالح مع شعوبها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى