دليلك إلى الكتاب النافع
«ما جدوى الأدب؟» لأنطوان كامبانيون
محمود عبد الغني
أصدر الباحث ومؤرخ الأدب الفرنسي أنطوان كامبانيون كتابه «ما جدوى الأدب؟» سنة 2007، وهو في الأصل درس افتتاحي ألقاه في الكوليج دي فرانس ذات خميس 30 نونبر من سنة 2006. وهو الدرس رقم 188 في فضاء هذه المؤسسة الأدبية العتيدة. فبعد السؤال النظري والتاريخي التقليدي: «ما الأدب؟»، يُطرح اليوم، وباستعجال، سؤال نقدي وسياسي أيضاً: «ما الذي يستطيع الأدب فعله؟»، هل يمكنه فعل شيء في الألفية الثالثة المزدحمة؟ أي قيمة يمنحها المجتمع والثقافة المعاصرة للأدب؟ أي نفع تنيطه به؟ أي دور يلعبه؟ قال الكاتب الإيطالي «إيطالو كالفينو»: «إن ثقتي في مستقبل الأدب ترتكز على قناعة أن هناك أشياء وحده الأدب يمكنه أن يمنحها لنا». فهل هذه هي عقيدتنا نحن؟
ينطلق كامبانيون من عقيدة راسخة هي أن الأدب ليس مضاداً للمعرفة العلمية. فالاعتقاد بعكس ذلك هو خطأ فرنسي فادح. خطأ ارتكب في القرن التاسع عشر، حيث بدأ تدريجياً الشروع في تهميش اللغات القديمة والإنسانيات في المدارس والثانويات. أما كامبانيون، المتخصص في الأدب الحديث والمعاصر، فيرى أن أنظمتنا التعليمية، ليس في فرنسا فقط بل في العالم أجمع، توجد في وضعيات مفصلية حاسمة، فيقول مؤكداً: «إن المعرفة الأدبية هي ما ينبغي الدفاع عنه.» نتذكر رجل الدولة والفيلسوف «فرانسيس باكون»، من المرحلة الإليزابيثية، حين وصف المجتمع المثقف: «القراءة تجعل المرء كاملاً، المحادثة تمكن المرء من عقل حاد، والكتابة تجعله دقيقاً. لذلك، إذا كتب المرء قليلاً، يجب أن يتمتع بذاكرة قوية، وإذا تساجل قليلاً، يجب أن يتوفر على عقل نشيط،، وإذا قرأ قليلاً يجب أن تكون له الكثير من الحيل، كي يظهر أنه يعرف ما لا يعرفه.»
إذن، ما هي السلطة الحقيقية التي يمارسها الأدب على الإنسان المثقف، إذا كان يمارس إمبراطوريته على الكائن الاجتماعي؟ يرسم كامبانيون أربعة تفسيرات لهذه السلطة. التحديد الأول كلاسيكي، ودافع عنها أرسطو في كتابه «فن الشعر». فتمثيل العالم والطبيعة هو ميل طبيعي للإنسان الذي يتميز عن الحيوان، باختصار، الأدب هنا يعلم هنا وهو يمتع.
التحديد الثاني لسلطة الأدب هو متأخر قليلاً. يرى أنطوان كامبانيون أنها ظهرت مع عصر الأنوار وتعمقت مع الرومانسية. لم يعد الأدب وسيلة للتعليم والتكوين وهو يقدم التسلية والمتعة، بل علاجاً يهدف إلى علاج الإنسان من الظلامية والتعصب الديني، كما أصبح أداة لإحقاق العدل والسلم. فالقراءة هي الوسيلة المفضلة للحرية والمسؤولية الفردية. وقد كان فولتير الناطق باسم هذه السلطة.
التحديد الثالث المقترح من طرف كامبانيون هو أكثر طموحاً، لكنه أكثر تجريداً. هنا، يتم وصف الأدب باعتباره «مصححاً للقول»، فهو لم يعد يهدف إلى تحرير الإنسان من المجتمع بل من القصور اللغوي. يستشهد المحاضر هنا بـ: مالارمي، بيرغسون، بروست، السورياليين، إيف بونفوا، ميشيل فوكو ورولان بارث. فمع هؤلاء أصبح الأدب شيئاً فشيئاً إلى أن يصبح فلسفة، لسانيات، وليس فقط وسيلة بل موضوعاً للدراسة.
بعد القوة الكلاسيكية، الرومانسية التي التصقت بالأدب، وقف كامبانيون عند بودلير وفلوبير لأنهما جعلا من الأدب سلطة على ذاته.
حسن نجمي: العالم يعج بذوات معطوبة
الشاعر المغربي يرى أن جوهر بعض المعارك الأدبية يستهدف الحرية
/////////////////////////////////////////////
قال الشاعر حسن نجمي، في حوار مع «الناشر الأسبوعي»، متأسفاً، إن «العالم ما زال يعج بذوات معطوبة نفسيا» تصنع الحروب والنزاعات، محذراً في الوقت نفسه من «بعض المعارك الأدبية في الظاهر، والتي تستهدف في جوهرها آخر قلاع الحرية وحق المبدعين في الإبداع والتخيل، وفي الحلم والتجريب».
وتناول الحوار مع نجمي خصوصية منجزه الشعري، وتجليات الظاهرة الشعرية الجديدة في المغرب خصوصا، وفي عموم الوطن العربي، وقضايا في الكتابة والمشهد الإبداعي العربي المعاصر.
//////////////////////////////////////
– في أحدث دواوينك «ضريح أنا أخماتوفا»، تنطلق من استحضار الموت إلى كشف أصول الأشياء، ورد الوجوه إلى حقيقتها، والاحتماء بالجوهر من أجل التخلص من سائر التفاصيل الزائلة. هل ترى شقاء الإنسان الأعظم في لهاثه خلف الطقوس، حتى وهو يشيع راحلاً بالجنازة والتعازي والتأبين؟
– ربما تبلورت فكرة الموت في هذا العمل الشعري بعيدا عن أي تخطيط مسبق، عبر سيرورة طويلة من الاستبطان والتأمل، ولعل هول الجائحة التي اجتاحت العالم كله، بمجموع الكوارث والفواجع والتداعيات التي عشناها ونعيشها حتى الآن، عجل بإنهاء وصدور «ضريح أنا أخماتوفا».
طبعاً هناك اسم الشاعرة الروسية أخماتوفا التي توشج في هذا الكتاب بين فكرة الموت وفكرة الحياة، وهي من هي في الشعرية الإنسانية وفي التاريخ الأدبي المعاصر في بلادها وفي العالم، وهي أيضا ما عاشته من محن وتراجيديات إلى جانب شعراء روس كبار من أمثال مايكوفسكي وماندلشتام ومارينا تسفيتاييفا، وصولا إلى ما عاناه الكتاب بين فكرة الموت وفكرة الحياة، وهي من هي في الشعرية الإنسانية وفي التاريخ الأدبي المعاصر في بلادها وفي العالم، وهي أيضاً ما عاشته من محن وتراجيديا إلى جانب شعراء روس كبار من أمثال مايكوفسك وماندلشتام ومارينا تسفيتاييفا، وصولا إلى ما عاناه كذلك في الأوديسيا نفسها الشاعر جوزف برودسكي في محاكمته الكافكاوية في منتصف ستينات القرن العشرين، في ذلك الأفق الرهيب الذي وصف بكونه «أفقا من نار» بتعبير شهير لألكسندر بلوك. الشعر حليف الحياة أساسا، لكنه لم يسترخص الموت أبدأ في تاريخنا الشعري الإنساني، وفي مختلف الجغرافيات الشعرية. وأنت تعرف عدداً وافراً من الشعراء والشاعرات خاطروا بحيواتهم من أجل حقهم في القول وفي الشعر والحلم وإنتاج الجمال، ولم يكن الشعر أبدأ بالنسبة إليهم لعبة شكلية أو تزجية للوقت، لقد كان الموت حاضراً على الدوام في طرقات الشعر، خصوصاً في تجارب الشعراء الذين جعلوا من كتابة الشعر وممارسة طقوسه خيارا وجوديا وترجمة لرؤية وتعبيرا عن موقف حيث «كل شيء على استعداد للموت، وما يقاوم أفضل على الأرض، هو الحزن، وما سيبقى هو الكلام الجليل»، كما قالت أنا أخماتوفا.
وإذن، فإن «ضريح أنا أخماتوفا» يبعث أساسا برسالة شعرية كهذه دون أن يلح أكثر على تجليات طقوس الموت. والواقع أنني لا أقلل من قيمة وجدوى هذه الطقوس في الممارسات الثقافية والاجتماعية لدى الشعوب كافة مثلما لا أقلل من أشكال الحداد والرثاء والعزاء المختلفة الشعر والإبداع والحياة. وكم في تاريخنا الأدبي العربي والغربي من تراث متعدد ومتنوع خاص بفضاءات الموت. هناك فصل شعري كامل في كتاب البشرية أعده لنا علماء الآثار والمؤرخون ومؤرخو اللغات والآداب القديمة فقط من شواهد القبور، فما بالك بالحضارات التي تركت لنا «كتاب الموتى» العظيم كالحضارة المصرية.
– عبر «ضريح أنا أخماتوفا»، وعبر أضرحة أخرى لشعراء ومفكرين وفلاسفة وشخصيات تاريخية وأصدقاء، تكتشف أن الحياة لا تعدو أن تكون رحلة قصيرة، لكنها جديرة بأن تُعاش كما ينبغي لها. هل محبة الحياة ترويض للموت ليكون أليفاً يمكن التعامل معه، أم أن استئناس الموت هو الفعل اللازم لإعادة فهم الحياة التي يتلاشى صيفها سريعا؟
– ببساطة، الشاعر منذور لكي ينتصر للحياة. وأمام هول الموت من حوله، خصوصاً عندما يفجع برحيل موتى شخصيين، أصدقاء وأحبة وأهل، يجد نفسه مضطراً ليمارس الرثاء، هذا «المديح المتأخر» كما وصفه أخي محمود درويش، وهي رغبة أزلية في الإبقاء على الميت حياً كذكرى في الأشياء والأفعال والإيماءات والروائح والأصوات وفي الكلمات، والانتصار على الموت إن أمكن بالإبداع والفكر والفنون، وهو انتصار ممكن ومستحيل في الآن نفسه الحياة قصيرة، نعم، ولكنها جميلة وتستحق أن تعاش شعرياً وإنسانياً وأخلاقياً؛ بكرامة وشرف والمؤسف أن العالم ما زال يعج بذوات معطوبة نفسياً، بقادة وزعماء سايكوباتيين لهم القدرة على إثارة النزاعات والحروب دون أن تكون لهم هبة تحقيق السلام والأمن والاستقرار. وبالتالي تحول الوقت، وأصبح الموت صناعة مربحة في ظل نزعات الإرهاب والتطرف والغلو الديني والسياسي، وانتشار الجريمة المنظمة، ورواج الأسلحة، وتهريب البشر، وعودة أنواع من العبودية والاسترقاق، فضلاً عن سطوة وظلم الدول والأنظمة الكبرى في العالم المعاصر، وما إلى ذلك. الموت، في الحقيقة، «شيء ظالم» أو كما قال سيوران: «ثمة حقا شيء غير لائق في الموت». ولكنه هنا بيننا ومعنا يختار كل يوم فرائسه، وليس لدينا ما نواجهه به سوى العزاء وطقوس الحداد والتعبيرات المأتمية، والشعر، سيد القول ونشيد الإنسانية الأول.
جدلية الشعري والمعرفي
– تحفل قصائد لك بثقافة معرفية، وتستغني في مواضع أخرى، عن تلك الحمولات الثقافية، لتبحر قاصدأ العابر واليومي والاعتيادي. هل منابع القصيدة وروافدها منفتحة على الثقافي المعرفي بقدر نهلها من التجارب المعيشة وحركة الحياة ومكابداتها اليومية؟ ولماذا برأيك يعول أغلبية شعراء قصيدة النثر على الحياتي أكثر من المعرفي؟ وإلى أي مدى يبدو التأمل ضرورة من ضرورات النظر والكتابة في آن؟
– كأنك تحاول الحفر في مختبري الشعري الشخصي باحثاً عن «أسرار المهنة»، وعن تلك الجدلية القائمة بين الشعري والمعرفي في كتابتي. أخشى أن أتحدث إليك حديثاً قد يغدو بسرعة استعراضياً، وهو ما لا أريده في هذا الحوار أو في غيره، قبل قليل فقط، كنتُ أقرأ مقالة صحافية نشرها الشاعر المغربي الصديق الدكتور نبيل منصر، وهو شاعر وناقد شعري جيد، في صحيفة مغربية. فقد لفت الانتباه إلى ظلال الشبهة في استعمال بعض الشعراء لدينا في المغرب لمفهوم «المشروع»! إذ يعبر عن انتقاد لاذع لأداء الشاعر الذي يتحدث عن نفسه بذاتية متورمة وادعاء رخيص أنه «صاحب مشروع» في الشعر، والحال أنك عند افتحاص تجربته، تجده يستنسخ تجارب الآخرين. وتعثر في صوته على أصوات الآخرين عارية واضحة تماماً، وبالكاد قد تعثر على صوت له في ما تقرؤه له. عموماً، فالشعر معرفة. ولا بد للشاعر من البحث والقراءة والإنصات للواقع، فضلاً عن تكوينه الأدبي وممارسته الثقافية والمجتمعية، وانفتاحه على اللغات وشعريات العالم كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولذا لا بد لنا للعثور على قصائد كبيرة من أن يكتبها شاعر كبير، وما من شاعر أو أديب كبير بدون أن يكون قارئاً كبيراً، خلاقاً كبيراً، وعارفاً كبيراً بأسرار الكتابة ودروب الحياة، وأما قصيدة النثر، فهذا نقاش آخر لا بد له من سياق تفصيلي لنتحدث عنه، وذلك من حيث مرجعياتها النظرية والتاريخية، واستحضار لنماذجها الكبرى وروافدها في الشعرية الفرنسية والأمريكية بالخصوص، وكذا في تاريخ تطورها الشعري والأدبي والثقافي العربي. قصيدة النثر العربية اليوم صار لها تاريخ وعلامات ومحطات، وينبغي أن نقرأها من جديد على ضوء هذا المسار، ومن خلال ما حققته من تراكم غني ومتنوع، خصوصا عبر تجاربها وأسمائها القوية، سواء من جيل الرواد (أنسي الحاج، أدونيس، محمد الماغوط، والمغربي محمد الصباغ الذي لا يعرفه إخوتنا في المشرق العربي) أو من الأجيال التي بعده مثل سركون بولص وبول شاؤول ووديع سعادة وعباس بيضون وأمجد ناصر ونوري الجراح وعيسى مخلوف ولينا الطيبي وعبد القادر الجنابي وعبد الله زريق ومبارك وساط وسيف الرحبي وفوزية أبو خالد وميسون صقر وزاهر الغافري، دون أن أمضي في هذه اللائحة إلى حد إثارة الحساسية فقد أستعرض وأسهو عن أسماء وتجارب متميزة في كتابة قصيدة النثر، في السعودية والإمارات والعراق ولبنان ومصر والمغرب وتونس وغيرها من أجيال الثمانينات والتسعينات والألفية الجديدة. إن الإلحاح على قصيدة النثر شكلاً للكتابة لدى الأجيال الجديدة يأتي ضمن سيرورة طبيعية في تجريب الأجناس والأشكال الأدبية، الشعرية والسردية، في ثقافتنا العربية. ولا أظن أن قصيدة النثر العربية أقل قيمة من النماذج الكبرى في قصيدة النثر في العالم، بل هناك مختارات «أنطولوجيات» شعرية عالمية خصصت تحديداً لقصيدة النثر تضمنت قصائد نثر لشعراء ولشاعرات عرب من أجيالنا الجديدة. وتقديري فإن هذا الاختيار يأتي طبعاً من الإمكانات التي يتيحها هذا الشكل الشعري للتعبير عن تحولات الواقع الجديد في تعقيداته واشتباكاته الكثيرة والحقيقة أن كل جيل شعري بل وكل شاعر يجد نفسه في شكل معين، وفي لغة خاصة، وفي قصيدة معينة. بهذا المعنى أذكر أوكتافيو باث عندما رأى مرة أن ليست هناك قصيدة في ذاتها، وإنما هناك قصيدة في ذاتك، وقصيدة في ذاتي.
– ثمة نماذج لقصيدة النثر العربية، خلال السنوات الأخيرة، قد تتهم بأنها تبدو مثل استنساخ وتصورات ساذجة حول مشاهد الواقع والمذكرات الشخصية، تحت مظلة التكريس للعابر والبسيط واليومي على نحو سطحي. كيف ترى مسار الحراك الشعري في الحالة العربية؟
– عموماً لا أتحمس شخصياً لإطلاق الأحكام الجاهزة والمطلقة التي لا تميز عادة بين الواقع وضده، واتهام قصيدة النثر ليس جديداً في نقاشاتنا بل أصبح متجاوزاً في السياقات الشعرية والأدبية والثقافية الجديدة. كما أنه اتهام غير منفصل عن اتهام الشعر ذاته بقائمة لا نهائية من الظنون، ليس في الوطن العربي – كما أشرت – وحده، وإنما في العالم المعاصر ككل.
لا ينبغي الاصطفاف خلف صفوف الاتهام المواظبة على الحضور والمنازلة دون انقطاع، فالساحة الأدبية ليست ساحة حرب، وأظن أن ظهور بعض الاتهامات الجديدة أو استمرار اتهامات قديمة في مواجهة الشعر وبالأخص قصيدة النثر ليسا سوى تعبير عن أنواع متباينة من التلقي النمطي والمدرسي الجامد، غير قابل للتطور والتعلم والانفتاح.
هناك دائماً شعر جيد وشعر رديء في الساحة. وهناك دائماً قارئ كبير قوي وقارئ خفيف ضعيف محدود مثلما هناك شعراء حقيقيون وشعراء آخرون يكملون المشهد ويؤثثونه، وللجميع الحق في الوجود والحضور والتعبير. وطبعاً، الزمن وحده كفيل بالتصفية والإنصاف.
مع ذلك، ينبغي أن أطرح السؤال: عن أية قصيدة نثر يتحدث هؤلاء الذين تشير إليهم؟ فهناك قصيدة النثر التيماتيكية التي تشتغل على الموضوع (التيمة)، وقصيدة النثر التأملية، وقصيدة النثر الحكائية، وقصيدة النثر التي تشتغل على تقنية اللائحة (القائمة)، وقصيدة النثر التي تعتمد تقنية الرسالة، وهناك قصيدة النثر الحوارية، وقصيدة النثر الشذرية، وقصيدة النثر السردية، والقصيدة الأوتوبيوغرافية، بل هناك قصيدة النثر التي تشكل تقنية التكرار جوهرها وقيمتها. هناك أنواع متعددة من قصيدة النثر وبعضها اليوم يشتغل بتقنية التوليف (المونتاج)، وبتقنية الصورة المشهدية (سينمائية البناء)، فهل تصبح هذه التقنيات المميزة لأنواع قصيدة النثر صكوك اتهام جاهزة؟ وهل من المعقول أن نقبل باستمرار هذا الانحطاط السوسيو ثقافي والسيكولوجي المعطوب بيننا؟ من المؤكد أن هناك مظاهر ضعف في كتاباتنا الشعرية العربية بجميع أنواعها وأشكالها، ويمكننا أن نجد تجليات لهذه الهشاشة في مختلف التجارب الشعرية في العالم، لكن الضعف في شعرية شاعر أو شعرية جيل لا يبرر أنواعاً من الرداءة «النقدية» والإعلامية الرخيصة أو إعلان حروب باردة من حين لآخر على الشعر والشعراء، والأدب والأدباء، والثقافة والمثقفين. وفي تقديري، فإن مثل هذا الإسفاف والرفض والتهجم هو تجل واضح لتراجع دور الجامعة في واقعنا الثقافي والفكري والنقدي والأدبي العربي. هذا التراجع في النظام الجامعي اليوم، ينعكس على الساحة الأدبية والثقافية في الوطن العربي كله. ومن هذا التراجع أو الانهيار ازدهر الفكر الظلامي وحركات الردة والانغلاق والتطرف بمختلف أنواعها. كما تقلص الخطاب النقدي، وتم تسبيج الفكر العقلاني والحداثي بأسيجة متعددة. من هنا، ينبغي أن نحذر من بعض المعارك الأدبية في الظاهر، والتي تستهدف في جوهرها آخر قلاع الحرية وحق المبدعين في الإبداع والتخيل، وفي الحلم والتجريب.
قصيدة السياقات الجديدة
– تأثرت قصيدة النثر، والشعر عموماً بمعطيات العصر الرقمي، فهل تعتقد بظهور أنماط شعرية جديدة تحت مظلة الأدب الإلكتروني، على غرار الرواية التفاعلية كشكل روائي في عالم السرد؟
– ليس سهلاً بالنسبة إلي أن أجيبك عن هذا السؤال التركيبي. هو سؤال جيد وعميق، لكنه يطرح جملة من الإشكالات لست متأكداً من أنني قادر على الإحاطة بها كلها. وأفترض أن قصيدة النثر العربية جزء لا يتجزأ من المشهد الشعري المعاصر، وهي غير منقطعة بالتأكيد عن سيرورة التحول التي يعرفها العالم في مجالات المعرفة والبحث العلمي والتطورات التكنولوجية والتواصلية والإعلامية. نحن بعيدون اليوم أبعد ما نكون عن السياق التاريخي الذي ظهرت فيه قصيدة النثر في منتصف القرن التاسع عشر، في أوروبا وأمريكا. كما أفترض أننا نعيش عصراً مغايراً للعصر الشعري والثقافي والتقني الذي كتب فيه شعراء قصيدة النثر الرواد المؤسسون في فرنسا قصائدهم النثرية (بودلير وآرثر رامبو وقبلهما برتران في «غاسبار الليل») وكذا الشعراء الآخرون الذين جربوا أيضا كتابة قصيدة نثر مثل مالارمي، فضلا عن روني شار وهنري ميشو، والشعراء السرياليين وغيرهم من أمثال فرنسيس بونج، ماكس جاكوب، بيير رفيردي، وأيضاً شعراء آخرون من أمثال نيرودا وغابرييلا میسترال وريتسوس وبريشت وسيفريس. والأمريكيون من والت ويتمان إلى أشبري وميروين ومارك ستراند وغيرهم. ومعنى هذا أن قصيدة النثر بما هي قصيدة تستعمل الجملة النثرية، وتتصرف بحرية أكبر في استثمار كل المدخرات والآليات المتاحة أمامها، لا بد أن توظف كذلك ما جاد ويجود به العصر الرقمي وثورة المعلوميات، إن في تشكلها وتكوينها أو في إثراء متخيلها الشعري أو في تحقيق بنيتها الإيقاعية. ولا حاجة إلى القلق بهذا الخصوص، لأن هذه القصيدة شكل أكثر جاهزية من الأشكال الشعرية الأخرى من حيث تقبل وتوظيف نتاجات العصر الجديد في إنتاج معناها الشعري وتوليد طاقتها الموسيقية. ينبغي أن نمنح أنفسنا مزيداً من الوقت والمسافة لنرى ونرصد ونلاحظ ونستنتج قبل أن نصدر أي حكم. وما أنا متأكد منه أن قصيدة النثر تظل دائماً قصيدة السياقات الجديدة، إنها بنت السياق بامتياز.
رهائن
– هل ترى ضرورة في أن يكون المثقف العربي ملتحماً بدرجة أو بأخرى بالفعل الثقافي العام؟ وإلى أي مدى يبدو المناخ الحالي مواتياً للإنجاز الإبداعي الهادف إلى التغيير وإحداث حراك منشود؟ وماذا ينقص «القوة الناعمة» العربية لكي تصير قوة حقيقية على الأرض، وذلك في ضوء ما يعيشه المثقف العربي من واقع مليء بالضغوط والإحباطات، إلى جانب تضاؤل هامش الحريات؟
– في تقديري، لا معنى للمثقف إلا إذا كان في قلب مجتمعه ملتحماً بالفعل الثقافي وبالمشروع المجتمعي في بلاده، يعيش – فكراً وممارسة – سياقه التاريخي، مؤثراً في مجرى الأشياء، إن أمكن، ومتأثراً بالأحداث وذا صلة مباشرة أو غير مباشرة بمعطيات الواقع الملموس. بهذا الارتباط العضوي، وبهذه الجدلية بين الثقافي والفكري والسياسي تنبثق الأشياء الجديدة وتتحقق التراكمات في الزمان والمكان، لكن المشكلة أن معظم المثقفين أصبحوا يوثرون العزلة وينأون بأنفسهم عن الفعل العمومي، وتكاد تنقرض الوظيفة النقدية للفاعلين الثقافيين والنخب الفكرية في مجتمعاتنا العربية.
الواقع أن المثقف، لا بصفته الفكرية والمعرفية والإبداعية فحسب بل بصفته البشرية أولا وقبل كل شيء، مطالب بتحمل مسؤوليات مجتمعية، مدنية وأخلاقية، وكيفما كانت المكانة الاجتماعية للمثقف فالناس يحترمونه ويعبرون عن حاجتهم إليه حتى ولو لمجرد فك خطوط في رسالة وصلت إلى أم من ولد لها في بلاد المهجر. يمكن للمثقف أن ينهض بدور حيوي في تنظيمات المجتمع ومؤسساته المدنية، وقد كان هذا انشغاله دائماً لولا انهيار الطبقات المتوسطة في مجتمعنا العربي، وتقلص الدخل المادي لشرائح وفئات واسعة من المثقفين، ما جعل عدداً كبيراً من مثقفينا في الغالب عرضة للإغراءات المادية المختلفة، وللاستعمالات المنحرفة، وهذا ما يفسر اليوم زيف عدد من الخطابات، واسترخاص جملة من القيم النبيلة، وتراجع الفعل الثقافي والنقدي، وازدهار ثقافة التبرير والجبن والنقد الشفوي غير الجاد، وغير النزيه. وهكذا أصبح المثقفون رهائن لقادة وزعماء وشركات ومؤسسات وأنظمة جاهزين لبيع خبراتهم الفكرية والتقنية، وربما بيع رأسمالهم الرمزي وضمائرهم وكرامتهم الباقية، وفي غمرة انهيارات كهذه، مادية واقتصادية واجتماعية، يصعب أن نتحدث عن وضع اعتباري مستقل للمثقف العربي، وعن إبداع فكري ومعرفي منتج للتاريخ وموقظ للوعي.
حوار مع الباحث عبد الرحيم جيران
الأدب ليس مجرّد تخييل قوامه الإمتاع بل فاعلية متّصلة بالجانب الأنطولوجيّ للإنسان
حاوره: محمود عبد الغني
ينتمي الباحث الدكتور عبد الرحيم جيران إلى طينة خاصة من الباحثين. فإضافة إلى ممارسته الأدبية المزدوجة (ناقد وروائي وقاص)، فهو منشغل على الدوام بتأطير أسئلة نوعية حول النص والنظرية الأدبية. لكن اشتغاله الرئيسي يتحقق في حقل السيميائيات السردية، وأصدر فيها «في النظرية السردية» (2006)، و«علبة السرد» (2013)، وأعمالا أخرى منها «إدانة الأدب» (2008)، «سراب النظرية» (2013)، «الذاكرة في الحكي الروائي» (2019). كل هذا التأسيس النظري وظفه في دراسات عديدة نوعية في «ألف ليلة وليلة»، حيث أصدر كتاب «لما تكلم الحكي، ج. 1» (2001).
س- كيف يتعامل الأستاذ جيران مع مفهوم الأدب؟
ج- أتعامل مع مفهوم الأدب من خلال زاويتين: تصوّرُ مفهومه، وتاريخية تشكُّله. وأظنّ أنّ مفهوم الأدب، كما أتصوّره، ليس مجرّد فاعلية تخييل قوامها الإمتاع فحسب، فهناك وسائل أخرى في الحياة أكثر إمتاعًا، بل أيضًا فاعلية متّصلة بالجانب الأنطولوجيّ للإنسان في الحياة، ويتضمّن في طبيعته- بوصفه فعلًا- سعيًا إلى مغالبة الوجود وقتامته والتباساته؛ ومعنى هذا أنّه تعبير عن النقص الذي يعاني منه الإنسان حيال ذاته غير المجهّزة بما يكفي لمواجهة العالم، ويعاني من كون هذا الأخير لا يقدّم له ما يكفي تطلّعاته. وإذا كان الأمر كذلك فهو إعادة إنتاج للعالم من حوله، بما يسمح له بإدراك نقصه هذا بوساطة إنشاء عوالم مخيّلة موازية قادرة على تقديم فهم للخصام مع عالمه الذي لا يتّصف بالمطاوعة. ولهذا فالأدب لا يخيّل التوافق السعيد مع العالم كما في أنماط التخييل العريقة، بل يخيّل تعذّره، وعبر الشكل. ويفضي بنا هذ التصوّر إلى ضرورة وضعه في إطار تاريخية الأدب؛ فهو يُعدُّ تحوّلًا جذريًّا في التخيبل توافق مع عصر النهضة، ونشوء مفهوم الفرد المستقلّ، وظهور الطباعة، فلم يظهر مصطلح الأدب إلّا في بداية القرن التاسع عشر (1800 م) مع مدام دو ستايل، وظهوره هذا جاء ليعبّر عن تحوّل في التخييل يقطع مع الكيفية التي كان يمارس بها في العهود القديمة، نظرًا للتحوّل الذي حدث في الفكر، وفهم العالم والوجود، والوضع الإنساني الذي لم تَعُد فيه الكلية ممكنة، وتُرك الفرد فيه في مواجهة عزلته، بما يعنيه هذا من تنافر بين الوسيلة والغاية.
س- يثير سؤال سارتر: ما الأدب؟ سؤالًا مكمّلًا: كيف هو الأدب اليوم؟ ما جدواه؟ كيف يفيدنا في حياتنا اليومية؟
ج- لقد أثار بول سارتر سؤال «ما الأدب؟» في سياق تجاذب فكريّ وسياسيّ ميّز منتصف القرن العشرين، كانت الإيديولوجيات فيه تختبر جدواها في سياق الخروج من الحرب العالمية الثانية، وسياق تصوّر مستقبل آخر للإنسان يتجاوز فيه اغترابه، ولهذا ربط سارتر بين فاعلية الأدب التخييليّة والالتزام بقضايا الإنسان، لا من وجهة نظر الواقعية الاشتراكيّة، ولكن من وجهة نظر تحريره وتحرّره. أمّا الأدب اليوم، وما قبل اليوم بعقود خلت، فلم يَعُد معنيا بأسئلة منتصف القرن العشرين، ولا بصياغة أدبيات توجِّه الإبداع نحو هذا المنحى التخييليّ أو ذاك، والسبب في هذا أن السياق اختلف؛ فقد انهارت كلّ المرويات الكبرى التي كانت تَعِد بها الإيديولوجيات، وانهارت التكتّلات الفكريّة والفنّيّة والإبداعيّة، واختفت المجلات الأدبيّة والفكريّة المؤثّرة التي تعبّر عن هذه التكتلات، وظهرت وسائل تعبيريّة جديدة متّصلة بالوسائط التي تنافس الكتاب، وقد مكّنت هذه الوسائط شرائح عريضة كانت مبعدة من النشر بفعل لجان القراءة وهيمنة جماعات القرار من التعبير عن نفسها من دون قيود. ونتيجة لكلّ هذا تحوّل الأدب إلى ممارسة حينية تكاد تتّصف بكونها ردود أفعال حيال الواقع يغلب عليها اليومي وتفاصيله أو الاتّكاء على الحياة الخاصّة من دون اهتمام بالمغايرة التي هي جوهر الأدب، أو اهتمام بتجديد الشكل وفق أسئلة مقلقة تتعلّق بفهم العالم أو بالصيغ الجماليّة التي بإمكانها أن تعبّر عن صيرورة العالم وتحوّلاته الجذريّة، حتّى إنّنا نستطيع القول: إنّ ما ينتج اليوم بوصفه أدبًا يعاني من تفسّخ مفهومه، ومن انفصاله عن تاريخيته.
س- بعد عمر من الكتابة والتأليف في النظرية والإجراء، هل لاحظت تأثيرًا في ما كتبته في الواقع؟
ج- سؤال صعب جدًّا، ولعلّ السب في هذه الصعوبة يعود إلى مجموعة من الحيثيات، من أهمّها أنّ المرء لا يتوفّر على ما يستطيع به معرفة صدى ما ينتجه في محيطه، لأنّ السياق الفكريّ والإبداعيّ غير صحّيّ، وعدم الصحة لا يأتّي مما يُنتج، وإنّما من غياب نقد النقد، والجدال الموضوعيّ حول الأعمال التي تنشر، فلا يُمْكِن تطوير الأدب والفكر من دون تفاعل بينهما ومحيط تلقّيهما؛ فالكاتب ليس بمقدوره معرفة لا جدوى ما ينتجه وتأثيره في الواقع ورؤية المجتمع إلى الأشياء والعالم، ولا قيمة الأعمال التي ينتجها. ولعلّ من الصعب أن أقول إنّني أثّرت في ما حولي وواقع الكتابة وواقع العيش، ولا أحد ممّن ينتمي إلى مجتمعنا النصّيّ بإمكانه ادّعاء هذا الفضل العظيم، فكم حجم النسخ التي تباع من كتبنا حين تطبع، وحجم القرّاء، وما مدى صدى فعلنا في وسط الكتل العريضة؟ وقد يخطئ الكاتب إذا ما عدّ محاباة الوسط الضيّق له دالًّة على توسّعه وأثره البالغ في محيطه. ولعلّي أظنّ أنّ قصارى تأثير كتبي لا يتعدّى المحيط الضيّق للبحث العلميّ المباشر وغير المباشر؛ وحتّى في هذه الحالة تواجه الباحث مثلي مشكلات تمنع من أن يكون تأثيره بالغ الأهمّية؛ إذ ليكون الأمر كذلك ينبغي للبحث العلميّ في الجامعة أن يكون متطوّرًا، لا على مستوى التمويل أو البنيات فحسب، بل أيضًا على مستوى العقلية والمعايير الأخلاقيّة للعلم.
س- كيف ينظر الباحث والأديب عبد الرحيم جيران إلى جدوى الأدب في واقعنا الراهن؟
ج- ربّما لو كانت لدينا سوسيولوجيا الأدب لكانت الإجابة عن هذا السؤال أكثر دقّة، وينبغي الّا تفهم السوسيولوجيا الأدبيّة- هنا- بصفتها مقاربة تحليليّة للنصوص، وإنما بعدِّها علمًا ينهض على دراسة الأدب بوصفه منتوجًا من زاوية التواصل باعتماد وسائل الإحصاء، كما هو الأمر في دراسات روبيرت إسكاربيت. وإذا كان لي أن أجيب فمن باب الانطباع والرأي، وليس من باب العلم. وأظنّ أنّ جدوى الشيء تقاس بالحاجة إليه بوصفه مشكّلًا قيمة مهيمنة داخل مجتمع ما، وإذا كان الأمر كذلك فإنّ سؤال جدوى الأدب يجد موضعه هنا. ويكفي النظر إلى الاهتمامات التي تسيطر على الإنسان العربيّ، لا المغربيّ وحده، لفهم أنّ الأدب لا يشكّل اهتمامًا يرتّب في درجة جيّدة في سلّم القيم، بل يكاد ينحصر الاهتمام به داخل دائرة ضيّقة، وحتّى هذه الدائرة الضيّقة لا ترى إلى جدوى الأدب من منظور الحاجة التاريخيّة، والتي تتجاوز البعد الفرديّ الذاتيّ الضيّق إلى خدمة أهداف وقيم عليا تتّصل بفهم العالم وتحسين الوجود، بل ترى إليها من منظور التمايز الاجتماعيّ؛ أي اكتساب الحظوة داخل المجتمع. ولعلّ هذا ما يجعل أغلب الكتّاب العرب منفصلين عن الضرورة التاريخيّة، وعن مجتمعهم. صحيح أنّ جدوى الأدب ينبغي لها أن تنبع من صلب المجتمع وتنظيمه الاجتماعيّ، وأن يكون هناك سياق مسعف لكي يتحقّق هذا الأمر من طريق تشجيع القراءة وتعميمها بوصفها سلوكًا يوميًّا، لكن لا يُمْكِن عدّ هذا الأمر المسوّغ الوحيد، فممّا لا شكّ فيه أنّ الأدباء يساهمون بدورهم بهذا القدر أو ذاك في فقدان الأدب جدواه داخل المجتمع بفعل انسياقهم وراء المال، والبحث عن المواقع، وعرض خدماتهم على السلط، من دون تمسّك بالثوابت القيميّة.
س- في كتابك «إدانة الأدب» ناقشت كتابة «الأدب في خطر»، قدم للقارئ مضمون كتابك ودواعي تأليفه..
ج- آه.. لقد كتبت هذا الكتاب في سياق محدّد ووفق رؤية تسعى إلى بناء علاقة حواريّة مع النتاج الغربيّ، بغية تجاوز تبعيتنا للغير عبر تمثّله أو تقليده. وقد ركّزت فيه على مناقشة ما ورد في كتاب تودوروف المذكور من آراء تتّصل بتدريس الأدب، ومهاجمته المناهج الأدبيّة. وما كنت لأفعل ذلك لولا ما لاحظت فيه من مغالطات، بما فيها عدم ذكر مسؤوليته المباشرة في اقتراح المنهج البنيويّ في التدريس. لكن لم يقتصر عملي في كتاب «إدانة الأدب» على الكشف عن المغالطات، بل تعدّاها إلى مناقشة التصوّر الذي تبنّاه تودوروف في فهم فعل تدريس. وقد ناقشت هذا الأمر وفق زاويتين: زاوية أولى تتّصل بانعدام تصوّر ديداكتيكيّ في كتابه، إذ إنّ الأدب لا يُدرّس بالطريقة ذاتها في كلّ مستويات التعليم، فتدريس الطفل بعض المقطوعات الشعريّة يختلف عنه حين ندرس الأدب للمراهق في الثانوي أو للطالب في الجامعة؛ فهناك مراحل ثلاث: الاستئناس، فالتحسيس ثم التأسيس، فما قاله تودوروف- في هذا الصدد- قد يكُون مقبولًا في تعليم القيم في المرحلة الأولى (الابتدائي والإعدادي)، لكنّه غير مقبول في المرحلة الثانية (الثانوي) والثالثة (الجامعة)؛ إذ ينبغي أن يُدرس في الثانوي ما الذي يصير به الأدب خطابًا نوعيًّا مختلفا عن الخطابات الأخرى، ومن ثمّة يتّجه التدريس إلى تدريس القيم الفنّيّة، بينما ينبغي للتدريس أن يتّجه في مرحلة الجامعة إلى جعل الطالب يكتسب مهارة تنظيم المعرفة الأدبيّة ودراستها، ودراسة الوسائل المسخّرة في هذا الشأن. أمّا في ما يخصّ الزاوية الثانية فتتّصل بالغاية من تدريس الأدب، والتي يحصرها تودوروف في تعليمه إيّانا الحياة، ومساعدتنا على عيشها، والمشكلة ليست كامنة- هنا- في الغاية ذاتها، وإنّما في عدم التنبّه إلى ما يحيط بها من إشكالات، وأكتفي بإثارة اثنين منها: أوّلًا، لا يوجد نمط واحد للحياة، بل أنماط عدّة مختلفة، واختلافها متأتّ من اختلاف التشكّلات الاجتماعيّة، فأيّ نمط ينبغي تدريسه إذن؟ وألّا يتضمّن هذا محو التخالف بفعل تنميط للحياة يجعل المرء يتقبّل مصيره كما هو، والذي تكاد تختزله عبارة المساعدة على العيش؟ ثانيًا، لا يمثّل الأدب الحياة الواقعيّة، بل حياة متخيّلة قائمة على تمزيق الطبعنة، ومخالفةِ العامّ السائد؛ أي أنّها حياة فردانيّة تشوِّش على القيم السائدة، وتسعى إلى هدمها، بل هي حياة قائمة على الإعلاء من الجميل. إنّ الأمر لا يتّصل بالحياة وإنّما بشكلها، وهما أمران مختلفان.
تاريخ الجرذان منذ القديم إلى اليوم
خاليد فؤاد طحطح
انتقل الطاعون الأسود عبر السفن التجارية من الصين خلال القرون الوسطى، فما قصة هذا الوباء القاتل في علاقته بالجرذان؟ وكيف تعامل الإنسان مع هذه القوارض عبر التاريخ؟
يعد الموت الأسود أخطر طاعون عرفته البشرية، أودى بحياة حوالي نصف سكانها آنذاك، ونعت بالأسود لأنه كان ينتقل من الجرذان التي تحمل هذا اللون، لكن كيف كان ينتقل من هذه القوارض للإنسان؟ كان يتم ذلك عبر وسيط وناقل هو البرغوث.
يرتبط الطاعون كوباء قاتل ارتباطا وثيقا بالجرذان، مما يعني أن هذه القوارض كان لها تأثير كبير في التاريخ الإنساني، ولم تُفهم العلاقة بينه وبين الجرذان علميا إلا في العقود الأخيرة من القرن 19م، لكن كانت هناك شواهد قبل ذلك تربط بينهما، لكنها لم تصل لدرجة اليقين، ففي العهد القديم وردت إشارة واضحة إلى ما أطلقت عليه “مرض طاعون القوارض”، وذلك أن وجودها كان يتزامن مع الطاعون، فاعتبرت نذير شؤم باقتراب وقوع الكارثة، وفي منتصف القرن 17م نجد إشارات في مراجع أوربية عن تزامن الوباء مع موت الجرذان، وفي المراجع العربية واللاتينية الشرقية نقف على ملاحظات وردت بشأن ترافق الموت الأسود خلال القرن 14م مع موت الجرذان، فابن سينا في أبحاثه حول الطاعون يشير إلى إحدى العلامات المميزة لظهوره ويتعلق الأمر بخروج الفئران من جحورها السفلية إلى سطح الأرض وموتها، كان التفسير آنذاك هو أن الحيوانات وخاصة القوارض تدرك خطر الميزم (النتن الصاعد)، وفي رسالة حول الطاعون التي كتبها توماس لودج يقول: “وعندما كانت الجرذان والخلد والمخلوقات الأخرى تهجر جحورها فإن ذلك كان نذيرا بفساد تلك الجحور” .
يَحضر الجرذ باعتباره مسؤولا عن الوباء في رواية ألبير كامو، وتدور وقائع الأحداث في مدينة وهران الجزائرية، حيث الجائحة كانت عنيفة جدا. الرجال والنساء يتساقطون صرعى أمام قوة الوباء، وتزايد حالات الموت أمام عدم اكتراث سلطات وهران أدى إلى تفاقم الوضع وخروجه عن السيطرة. وحين عثر على جرذ ميت أمام عيادة الطبيب ريو لم يتم التدخل، ففات الأوان بعد نفوق كل جرذان المدينة حاملة الوباء لكل الأحياء.
هكذا تحضر العلاقة بين الطاعون والجرذان بعدما كانت قد تأكدت علميا قبل زمن كتابة كامو لروايته، لكن ما يثير الانتباه هو أن رواية الطاعون تمنح القارئ درسا مهما، وهو توقع الراوي الاستشرافي لعودة الوباء في أي لحظة مستقبلا، فألبير كامو ينهي روايته بعبارات دالة وحكيمة على لسان برنار ريو، الذي كان يستمع إلى صيحات الفرح التي كانت تتصاعد من المدينة حين اختفى الوباء. كان الطبيب يعلم ما يجهله الجمهور الفرح، وهو أن قصيمة الطاعون لا تموت ولا تختفي أبدا، وأنها تستطيع العودة بعد أن تنام لعشرات السنين، إنها تترقب لتعود يوما، ففي كل لحظة يمكن للطاعون إيقاظ جرذانه. لقد ظنت البشرية أن الأوبئة والطواعين العالمية غدت من الماضي بسبب تقدم الطب، لكن كورونا العدو المتطور كسر هذه المسلمة، وأضحينا فجأة فريسة للوباء المجهول.
في الماضي السحيق كانت سمعة الجرذان في الحضيض، فهي متهمة بسرقة القربان المقدس، وورد تحريم أكلها في سفر الإصحاح، وكانت الكنيسة الكاثوليكية في منتصف القرن 16م تمنح بنسا واحدا لكل من يقتل ثلاثة جرذان، وتَعَيَّنَ على اليهود في فرانكفورت خلال القرن 15م دفع ضريبة قدرها 5000 ذيل من ذيول الجرذان خلال كل سنة، ولطالما اعتبرت الجرذان كائنات مدنسة ووسخة ورمزا للقذارة والخبث، بالرغم من أنها تظل نظيفة جدا وتحمي نفسها من التلوث، ولعل شهيتها الجنسية التي لا حد لها وجشعها لالتهام الطعام دون توقف هما سبب العداء والكراهية، ففكرة الشهوانية البهيمية والرذيلة السلوكية للجرذان بما فيها تدمير بعضها البعض تنضاف إلى فكرة القذارة التي ليست وحدها سببا في تنامي موجة العداء تجاهها.
غدا الجرذ اليوم ضحية بطبيعة بطولية، فقد مكنته خواصه المميزة والتي تتمثل في التكاثر السريع والتطور الخارق والنشاط الجنسي المفرط في جعله حيوانا مثاليا للمختبر، فهو غير مكلف ماديا، ونظامه العصبي ينمو بنفس طريقة نموه في الإنسان ولكن أسرع بثلاثين مرة، وهكذا تم توليد عدد كبير من الجرذان بسهولة كبيرة لأجل التجارب العلمية الطبية والنفسية، وتوجد حاليا أنواع متعددة من الجرذان ناتجة عن تعديلات وراثية، ولعبت أدوارا مهمة في حقل التجارب العضوية والبسيكولوجية وتجارب المتاهات التعلمية، ولا يمكن إحصاء ولا حصر العدد الكبير من التجارب التي أجريت على الجرذان في القرن العشرين، ففي بريطانيا لوحدها أجريت سنة 1978 تجارب على أربعة ملايين جرذ، وفي 2003 تم إنتاج أول جرذ مستنسخ، وفي سنة 2004 تم نشر الخريطة الجينية للجرذ، ولا يمكن اليوم الاستغناء عن خدماته مختبريا، وبذلك يكون هذا الأخير قد قدم خدمات جليلة لتاريخ البشرية، حتى لقد اشتهر بألقاب عديدة منها: “بطل العلم”. ومن المفارقة أن الجرذ سواء حين كان يعامل باعتباره حيوانا ضارا أو حين بدأ يحظى بالتقدير كبطل علمي كانت نهايته في الحالتين الموت فهو ضحية في الماضي والحاضر.
نخبوي وليس متعالياً
– ما الذي ينقص الشعر ليعود خبز المائدة؟ وما موقع الشعر على وجه الخصوص من أزمة النشر المتفاقمة في الوطن العربي، خصوصاً من جانب التسويق والتوزيع؟
– ولماذا تريد أن يكون الشعر «خبز مائدة» أو «خبزنا اليومي» كما كان ينادي البعض من رفاقنا الشيوعيين القدامى؟ أنا شخصياً ضد هذا التوجه السهل، فالشعر نتاج جمالي ولا يمكنه أن يكون شأناً مشاعاً قد نجده على قارعة الطرق، الشعر فعل معرفي، فكري، ثقافي وفني. وهو بهذا المعنى لا يمكنه أن يكون إلا نخبوياً وليس بالضرورة متعالياً. وأزعم أن على القراء أن يقلعوا عن الاستعمالات المدرسية الرائجة مثل «الشعر ديوان العرب»، وكذا «زمن الشعر» و«زمن الرواية»، وأيهما أسبق وأهم (؟) وما شابه من الأجوبة الجاهزة التي ليست لها أسئلة أصلاً، مما ينشغل به من لا شغل لهم في الساحة الإعلامية، لنذكر هنا عبارة شهيرة للعالم ألبيرت إينشتاين نصحنا فيها بأن نبتعد عن الأشخاص السلبيين، أولئك الذين لديهم دائماً
مشكلة لكل حل!
سيظل الإنسان في حاجة إلى الأدب والأدب في حاجة إلى الإنسان
نوافذ:
صدوق: الحياة لا تعرف الكمال والاكتمال إلا متى حقق الجمالي بلاغة حضوره ورسخ الأدب جدواه
الرحبي: الدكتاتوريون يكرهون الأدب فهو نقيضهم ولكنهم يخطبون ود الأدباء
استكتب الملحق الثقافي لجريدة «الأخبار» مجموعة من الأدباء والنقاد المغاربة حول السؤال المتشكك: ما جدوى الأدب، وهم: الناقد صدوق نور الدين، المترجم العماني والأستاذ بجامعة موسكو أحمد الرحبي، الروائي والمترجم محمد صوف، القاص عبد النبي داشين.
أكد صدوق نور الدين أن الإجابة عن سؤال ما جدوى الأدب – وهو بالمناسبة من الأسئلة التي طرحت ويتجدد طرحها في سياق التحولات على كافة المستويات- تقتضي التفكير في الوظيفة والضرورة. فتمثل سؤال الجدوى يضمر الوظيفة الممكنة للأدب، أو عموما لما يعد جماليا. إذ إن إيقاع الحياة العامة وتأثيره على ما يعد خاصا يفرض البحث عن اللحظة الجمالية في حياة الإنسان. وهذه، حسب صدوق، تمكن بالتحديد الدقيق في القراءة. قراءة ما تستشعر الذات أنها المخاطبة المعنية به كقول منجز يتحكم فيه منطق مغاير لمنطق الحياة العادية. إنه منطق إنتاج وعي ومعنى بالحياة يتأسس على خاصتي : الذوق والتأمل. فأن تقرأ نصا أو ترى لوحة أو تستمع إلى أغنية، يضيف، اختيار يتحكم في آلياته الذوق الذاتي الخاص الذي يستحضر فعل التأمل. والأصل أن كل تأمل تخييل. إنه التخييل الذاتي عن تخييل بمثابة الأصل والنواة. وفي هذه المرحلة بالضبط تكون «الجدوى» بلغت مداها. إذ يحدث أن نتفاعل مع شخصيات دستيوفسكي أو نجيب محفوظ أو محمد زفزاف مما تنتج عنه المشاركة في العملية الإبداعية. والواقع أن كل مشاركة تكسير لما يمارسه الواقع من عنف على الإنسان، وبالتالي على الحياة المعاصرة.
ويرى المترجم العُماني المقيم بموسكو أحمد الرحبي أن الأدب شاهد وشهيد، وهو دائما مشهود. حتى في أحلك أوضاع الحياة السياسية، والقمع، وانتشار السجون، لا يختفي الأدب أو يموت. ومع أنه أكثر الأعمال رومانسية، وطوباوية، مع ذلك فهو أكثر الأحلام واقعية. الدكتاتوريون يكرهون الأدب، فهو نقيضهم، ولكنهم يخطبون ود الأدباء. أما الأديب فإما أن يكون فنانا أو غير فنان. الأدب لا يحتمل القسمة، وهو الفاضح الأكبر للفنان والزعيم معا. وهكذا فالأدب هو المرآة التي لا تعير اعتبارا إلا للصورة الحية. فهل يمكن أن نخدع المرآة؟ ويضيف قائلاً: ربما تغير الأدب مع تغير الزمن، وسبح مع الأجواء والتيارات، ولكنه يظل أبدا مرآة. مرآة تكرم وجه الحياة حين تضاعفها، فتظهر ضعفها، وتنير عجزها، وتكشف غموضها، وتروي عسرها محاربة الضلال.