شوف تشوف

الرأي

هل سيكون بايدن غورباتشوف أمريكا؟

داود عمر داود

السؤال الذي يطرح نفسه هذه الأيام بعد الهزيمة الأمريكية في أفغانستان: هل تعيش الولايات المتحدة الآن اللحظة السوفييتية التي أعقبت هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، عام 1989، وتلاها انهيار الاتحاد؟ وهل استراتيجية بايدن الجديدة، بعد 20 عاماً من الحرب، تشبه (بريسترويكا) غورباتشوف، التي حاول من خلالها الحفاظ على بقاء الاتحاد ولم يحالفه الحظ؟
تولى ميخائيل غورباتشوف رئاسة الاتحاد السوفييتي السابق، قبل أشهر من هزيمة قواته وانسحابها من أفغانستان، وكان الاتحاد في حالة إفلاس لم يعد معها قادراً حتى على دفع رواتب جنوده، وفي محاولة منه لإنقاذ البلاد من وضعها الصعب، طرح غورباتشوف استراتيجيته لإعادة البناء الاقتصادي، عُرفت آنذاك، بسياسة الـ(بريسترويكا)، لكن جهوده لم تفلح دون تفكك الاتحاد السوفييتي، في أواخر 1991.
وفي أمريكا، تولى جو بايدن الرئاسة قبيل أشهر من هزيمة بلاده المذلة في أفغانستان (مقبرة الإمبراطوريات) وحاله مثل حال غورباتشوف يحاول إنقاذ بلاده من ذيول مغامراتها العسكرية، ولهذا طرح في خطابه الأخير استراتيجية جديدة تقوم على وقف التدخل العسكري في الخارج.
وأصبحت أدوات السياسة الخارجية تقتصر على الدبلوماسية، والضغوط الاقتصادية والسياسية، وحشد الدعم من الدول الأخرى. ويُعد هذا تراجعاً في موقف الدولة الأولى، التي تربعت على عرش العالم، منذ الحرب العالمية الثانية.
لقد شكّلت حرب أفغانستان كارثة اقتصادية كبيرة بالنسبة لأمريكا، إذ كشف بايدن أن كلفة يوم واحد من الحرب بلغت 300 مليون دولار، على مدى عشرين عاماً، الأمر الذي جعل «أمريكا تنزف» على حد قوله، وتعاني من كارثة اقتصادية كبيرة، وقد حصل الشيء ذاته مع فرنسا وبريطانيا، إذ أفلستا بعد خوضهما الحرب العالمية الأولى والثانية وضعفتا، فانتقلت زعامة العالم بعدهما إلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. والآن يتساءل بايدن «من ذا الذي يريدنا أن نستمر في النزف في أفغانستان غير روسيا والصين؟».
تستند استراتيجية بايدن على عدة ركائز أساسية شرحها في خطابه الأخير، بعد استكمال الانسحاب من أفغانستان: أول الركائز: إعلانه أن أمريكا ستوقف تدخلاتها العسكرية، ولن يشارك جنودها بعد الآن في حروب خارجية، وأنها ستلجأ إلى القصف الجوي بالطائرات، كوسيلة لمهاجمة الخصوم من دون تدخل بري. والركيزة الثانية: هي أن أمريكا لن تتدخل لإنقاذ أي حاكم بعد اليوم، قرر شعبه التخلص منه، واستخدم بايدن كنموذج لذلك الرئيس الأفغاني أشرف غني، الذي فشل البيت الأبيض في ثنيه عن الهرب، رغم أن الاتصالات استمرت معه حتى اللحظة الأخيرة، فكانت النتيجة انهيار الجيش الحكومي، ودخول طالبان العاصمة سلماً.
ومن أبرز ركائز استراتيجية بايدن حديثه عن (قلب الصفحة على السياسة الخارجية) السابقة. فالمعروف أن العداء، خلال الحرب الباردة، كان موجهاً ضد الاتحاد السوفييتي، الذي كان يصفه الرئيس ريغان بـ(إمبراطورية الشر). ولما انهار النظام السوفييتي، أوجدت أمريكا لنفسها عدواً آخر هو الإسلام. فأصبح، في نظرها، مجاهدو الأمس إرهابيي اليوم، وأخذت آلة الفبركة الأمريكية تنسج الأساطير عن الإرهاب والإرهابيين المسلمين، واختلقت مفهوم (الخطر الإسلامي) على الغرب. وكانت النتيجة أن ترسخ في الأذهان أن الإسلام هو العدو الجديد، واستخدمت ذلك مبرراً لشن حرب عسكرية وفكرية ضد العالم الإسلامي، منذ أكثر من 30 عاماً.
أما وقد تغير العالم الآن، كما يحلو لبايدن أن يردد، وأصبحت الصين هي العدو، فاضطرت أمريكا إلى تعديل سياستها، بحيث لم تعد تعتبر الإسلام عدوها الأول وقررت، على ما يبدو، وقف حربها على الإسلام، والانسحاب من البلدان الإسلامية، ولذلك قال بايدن «إن قرارنا الخاص بأفغانستان لا يتعلق بأفغانستان فقط. فالأمر يتعلق بإنهاء حقبة من العمليات العسكرية الكبرى، لإعادة تشكيل البلدان الأخرى».
هذا التحول في النظرة الأمريكية للإسلام ستكون له آثار بعيدة المدى، إلا أن الأمر العاجل الذي تريده الولايات المتحدة هو حشد المسلمين إلى جانبها في مواجهتها مع الصين، مثلما حشدتهم ضد الاتحاد السوفييتي من قبل. وعليه أصبحت مصلحتها تقتضي إيجاد حالة من التعايش السلمي بينها وبين المسلمين، وهذا يقود بالضرورة إلى أن تقبل أمريكا بأنظمة حكم كانت تصفها في الماضي بالتشدد، ودليل ذلك قبولها بحكم طالبان.
خلاصة القول: لقد انسحب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان عام 1989، وهو ينزف اقتصادياً من ارتفاع كلفة الحرب. فاستدعى هذا التدهور إلى أن يطرح غورباتشوف مشروع (البريسترويكا) أو إعادة بناء الاقتصاد، لكن بدل أن يقود الإصلاح إلى انتظام العجلة الاقتصادية حدث العكس، وفقدت الحكومة السيطرة، فقاد ذلك إلى انهيار النظام السوفييتي برمته.
وفي الحالة الأمريكية كأن الشيء ذاته يحدث فـ «أمريكا تنزف» كما قال بايدن، ومن أجل ذلك طرح استراتيجية جديدة لوقف النزف، أبرز بنودها وقف الحرب العسكرية والفكرية ضد العالم الإسلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى