هل سياسة تقبيل اللحى و«عفا الله عما سلف» ممكنة؟
منذ أيام، ونبيل العربي، أمين عام جامعة الدول العربية يوجه رسائل «غزل» إلى النظام السوري، تتناقض كليا مع مواقفه وجامعته التي اتخذاها طوال السنوات الأربع الماضية، مما يعكس انقلابا جذريا في الموقف العربي تجاه الملف السوري، تتبلور ملامحه في موسكو، وتتردد أصداؤه في أكثر من عاصمة عربية.
فعندما يؤكد العربي استعداده للقاء وزير الخارجية السوري وليد المعلم في أي وقت، وفي أي مكان يختاره، ودون أي شروط ويرفق هذا الاستعداد بالقول «إن سورية عضو مؤسس في الجامعة العربية (فسر الماء بالماء)، وعلمها موجود، ومقعدها موجود لن يشغله أحد»، فإن هذا يعني أن أسوار مقاطعة النظام السوري، وسياسات عزله تنهار الواحد تلو الآخر، تمهيدا لفرش السجاد الأحمر لعودة المندوب السوري إلى مقعده معززا مكرما، إذا رغب في ذلك.
قرار جامعة الدول العربية بتعليق عضوية سورية ومشاركة حكومتها في اجتماعاتها الذي أعلنه الشيخ حمد بن جاسم بن جبر وزير خارجية دولة قطر يوم 16/11/2011 بعد اجتماع لوزراء الخارجية العرب اشترط استمرار هذا التجميد لحين تنفيذها قرارات الخطة العربية لحل الأزمة، أي رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، ومن المفارقة أن القرار صدر بموافقة 18 دولة، ومعارضة دولتين، هما لبنان واليمن، وامتناع دولة واحدة عن التصويت وهي العراق، ومن الواضح أن الخطة العربية لم تنفذ، بل لم يعد أحد يذكرها، أو يريد أن يتذكرها، فقد مرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ إطلاقها، وأثبت النظام العربي فشلا كبيرا في تنفيذها.
هناك سؤالان يطرحان نفسيهما حول هذه المسألة، ويمكن أن تعكس الإجابة عليهما ملامح المرحلة العربية المقبلة:
• الأول: عن الأسباب التي دفعت وتدفع العربي الذي كان من أبرز «الصقور» المطالبة بعزل سورية، والذهاب إلى مجلس الأمن الدولي للمطالبة بالتدخل عسكريا لتغيير النظام فيها بالقوة، على غرار ما حدث في ليبيا.
• الثاني: هل ستقبل السلطات السورية هذا «الغزل» وتتجاوب معه، وتعطي الضوء الأخضر للسيد المعلم للقاء أمين عام الجامعة العربية، دون شروط، على طريقة مقولة «عفا الله عما سلف»؟
إجابة على السؤال الأول يمكن القول أن العربي لا يمكن أن يتحرك لوحده، ودون التشاور مع رؤسائه أولا، وأن جميع الدول العربية التي طالبت بعزل سورية وتجميد مقعدها، تواجه «مأزقا»، ربما يكون أخطر من مأزق النظام السوري نفسه هذه الأيام، والمسألة هنا نسبية، فالمشروع العربي الغربي لإطاحة النظام السوري وصل إلى طريق مسدود بعد أربع سنوات من التحشيد، والحصار، والدعم المكثف، ماليا وتسليحيا لـ«المعارضة المعتدلة»، وصمود النظام والجيش السوري في الجهة الأخرى، وهو صمود لم يخطر على بال أحد، خاصة في منطقة الخليج التي توقع معظم حكامها دخول المعارضة المسلحة العاصمة دمشق، والجلوس على مقعد الرئاسة في القصر الجمهوري في غضون أسابيع، أو أشهر على الأكثر منذ بدء الأزمة.
المملكة العربية السعودية، التي عبر وزير خارجيتها السابق الأمير سعود الفيصل عن غضبه بانسحابه من الاجتماع الأول لمنظومة «أصدقاء سورية» الذي انعقد في تونس عام 2012 احتجاجا على عدم اتخاذ قرار صريح بتسليح المعارضة بأسلحة نوعية، تواجه حرب استنزاف «بلا قاع» في اليمن، انتقلت إلى حدودها الجنوبية، ومعها صواريخ «سكود» و«كاتيوشا»، والتفجيرات والهجمات وصلت إلى عمقها في القطيف والدمام، وآخرها في الطائف، أما تركيا الرئيس أردوغان فتواجه تهديدا لأمنها القومي من جراء الفوضى في سورية، وصعود قوة الأكراد، ومطالبهم بدولة مستقلة في شمال سورية، وخسارة الحزب الحاكم الأغلبية البرلمانية لأول مرة منذ 13 عاما. وإذا انتقلنا إلى دولة قطر التي كانت من أبرز المحرضين على إسقاط النظام السوري، فإنها بدأت في الانكماش، والعودة تدريجيا إلى حجمها الطبيعي.
الاقتراح الروسي الذي طالب بتشكيل تحالف رباعي سعودي تركي أردني سوري لمحاربة «الدولة الاسلامية» لم يجد أي معارضة قوية من الدول المعنية، ومن المفارقة أن الرفض الوحيد المبطن له جاء من سورية نفسها، وليس من الدول الأخرى، وعلى لسان المعلم الذي شكك في إمكانية نجاحه، مما يعكس الانقلاب في الأدوار وموازين القوى في الوقت الراهن على الأقل.
صعود «الدولة الاسلامية» وقوتها، وضرباتها المتتالية والمؤلمة في أكثر من بلد عربي، ابتداء من العراق وسورية، ومرورا بالسعودية والكويت، وانتهاء بتونس ومصر، بات مصدر التهديد الحقيقي لأنظمة الحكم التي جمدت عضوية سورية، ومولت المعارضة وسلحتها لإطاحة النظام الذي تطالب حاليا بالتحالف معه ضد «الدولة الاسلامية»، وتعول على جيشه للقضاء عليها بريا، بعد فشل الضربات الجوية وحدها.
ولعل ما يخيف هذه الدول أكثر، مجتمعة أو منفردة، هو قرب توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الست العظمى والذي سيرفع الحصار ويفك تجميد أموالها، ويعترف بها كقوة إقليمية عظمى في المنطقة.
هل سيتجاوب النظام السوري مع «غزل» العربي، وهل سيغفر له، وللدول الأخرى، تجميد عضويته، وطرد مندوبه من الجامعة العربية، وإعطاء مقعد سورية إلى المعارضة في مؤتمر قمة الدوحة العربية، ورفع علمها أمامه؟ وهل سنرى المعلم يتبادل المصافحات والابتسامات مع العربي أمام عدسات التلفزة العربية والعالمية في اللقاء الأول بين الرجلين بعد غياب؟
لا نعتقد أن الأمور ستتم بهذه البساطة، وأن سياسة تبويس اللحى، ومقولة «عفا الله عما سلف» ممكنة في هذه الحالة، وبعد تدمير بلد بكامله، وتشريد خمسة ملايين من أهله، ومقتل 300 ألف آخرين، فالأمر أعقد من ذلك بكثير، ولا بد من مصارحة قبل أي مصالحة، واعتراف الأطراف المعنية جميعا بدروها في المأساة، بما في ذلك النظام السوري، وترجمة ذلك إلى خطط واضحة وصريحة بالتعويض، وإعادة الإعمار كحد أدنى، والإصلاحات السياسية وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، فعقارب الساعة يجب أن لا تعود إلى الوراء مطلقا.
ونقطة أخيرة، وهي أن العربي ليس هو الشخص المؤهل لقيادة أي توجه جديد نحو هذه المصالحة، ومن الأفضل أن يترك هذه المهمة لغيره، والرحيل مبكرا طالما تتغير المواقف رأسا على عقب، وتقف المنطقة أمام صفحة جديدة.
العربي، يجب أن يستقيل أو يقال من منصبه، ويترك الجامعة لغيره، كحد أدنى، لأنه أثبت فشلا كبيرا في مهمته على الصعد كافة يستحق مثوله أمام العدالة، والمحاسبة في آن.
وسبحان مغير الأحوال الذي يمهل ولا يهمل.