شوف تشوف

شوف تشوف

هل سنجلس على رصيف مقهى في ليالي رمضان؟

هناك رؤيتان تتصارعان اليوم في المشهد العالمي، رؤية تنادي بالإبقاء على حالة الحجر الصحي لوقت أطول، ورؤية أخرى تنادي برفعه في أقرب وقت لإنقاذ الاقتصاد.
في إسبانيا ابتداء من يوم الاثنين سيعود الناس لعملهم في القطاعات الضرورية كالبناء والتوزيع والفلاحة ووحدات الإنتاج. في إيران، التي يهمها بقاء النظام أكثر من الاقتصاد أو حياة المواطنين، رفعوا الحجر وطالبوا الناس بالخروج للعمل. في أمريكا التي تسجل أكبر نسبة إصابات ووفيات في العالم، والتي تدفن موتاها في مقابر جماعية، يتحدث ترامب عن رفع حالة الحجر لوقف انهيار الاقتصاد.
في فرنسا هناك نقاش حاد بين المدافعين عن تمديد حالة الطوارئ الصحية وإسناد أمر قيادتها للجيش بعد فشل الفريق الذي عينه ماكرون في خفض مؤشر انتقال العدوى، وبين المطالبين برفعها وعودة الناس للعمل.
الذين يدافعون عن التوجه الاقتصادي الرأسمالي الليبرالي يقدمون تفسيرا لا أحد يستطيع إثبات مدى علميته وهو أن الحل الوحيد لمواجهة هذا الفيروس في غياب لقاح أو دواء هو تعريض المواطنين للإصابة به، هكذا تتكون لدى سبعين إلى ثمانين بالمائة منهم مناعة القطيع. وهو ما دافع عنه بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني في بداية الجائحة قبل أن يتراجع أمام زحف الفيروس وينتهي مصابا به في غرفة العناية المركزة التي غادرها بعدما شفي. وهذا أيضا ما تطبقه بعض الدول كألمانيا التي تطبق حجرًا جزئيًا والسويد التي لا تفرضه أصلا.
وسط هذه اللخبطة هناك رأي الدكتور راوولت الذي لا يرى أي جدوى من فرض الحجر على المواطنين جميعهم، إذ المفروض أن يتم الحجر فقط على المصابين وهذا لا يمكن الوصول إليه دون إجراء فحوصات بشكل واسع ومكثف لعزل المرضى عن الأصحاء. وحتى مكان هذا العزل يبقى إشكاليا، فأنت عندما تكتشف حالة إصابة وتطلب منها البقاء في الحجر المنزلي ولا تحتفظ بها في المستشفى، مثلما يصنعون في إسبانيا مثلا حيث خصصوا فنادق للحجر وهذا ما ساهم في خفض عدد الإصابات، فأنت تعرض أفراد عائلة المصاب للعدوى، وهذا ما حدث في فرنسا التي رفضت تخصيص فنادق للحجر كما نادى بذلك مدير الصحة السابق.
في المغرب، وبشهادة الصحافة العالمية، لم يطرح مطلقا سؤال التضحية بالمواطنين من أجل الاقتصاد منذ بدء الجائحة، فمنذ اليوم الأول أمر الملك بشكل استباقي بإغلاق الحدود فيما ظلت دول أوروبا وأمريكا مترددة خوفا على اقتصادياتها بحجة أن الأمر يتعلق بزكام عابر، قبل أن يبدأ مواطنوها في التساقط صرعى وتسارع إلى تطبيق ما كان المغرب سباقا إليه. ومباشرة بعد ذلك تم إحداث صندوق بأمر من الملك لمواجهة تداعيات الجائحة فاقت التبرعات التي توصل بها التوقعات، وتم اتخاذ تدابير لحماية الفئات الهشة بصرف دعم مباشر لها.
الآن بعد حوالي شهر من بداية هذه الجائحة عندنا الجميع يتساءل هل سيتم رفع الحجر الصحي في عشرين أبريل أم أنه سيتم تمديده إلى ما بعد رمضان؟
لا أحد يستطيع أن يجسم في هذا الموضوع سوى السلطات المكلفة بالأمر، ومع ذلك يمكننا أن نناقش الموضوع ونطرح بعض الاحتمالات.
شخصيا، وهذا رأي يخصني وحدي، أعتقد أنه سيكون خطأ كبيرا رفع حالة الطوارئ الصحية خلال رمضان، فكلنا نعرف أن شهر رمضان هو شهر إحياء العلاقات الأسرية والتزاور والتقارب الاجتماعي، فيما الوضع الوبائي الذي نعيشه يفرض الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي.
والواقع أن رمضان في المغرب كان دائما شهرًا يتعطل فيه العمل، وتتراجع فيه المردودية إلى الحدود الدنيا، وحده الاستهلاك يعرف ارتفاعا بسبب الإقبال المفرط على الأكل. وأمامنا اليوم فرصة حقيقية لكي نصوم رمضان كما يجب، أي أن نقلص من استهلاكنا الغذائي إلى النصف وأن نتصدق بالنصف الآخر للمحتاجين.
وسواء وصلنا إلى مرحلة الذروة في ما يخص الإصابات خلال نهاية أبريل أو قبل ذلك فإن الحكمة تقتضي أن يستمر الحجر إلى ما بعد رمضان، مع الاستمرار في التشدد والصرامة في تطبيقه، فليس أسوأ على المغرب من ارتخاء القبضة واستسهال المرحلة الحاسمة التي تجتازها بلادنا والاعتقاد أننا تجاوزنا مرحلة الخطر.
لقد رأينا كيف سارعت دول كبرى تمكنت من القضاء على الفيروس إلى رفع الحجر فوجدت نفسها مجبرة على إعادته، ومثال اليابان أمامنا.
وطبعا فنحن نقول هذا ليس لأن منظمة الصحة العالمية تقوله، فهذه المنظمة ارتكبت منذ اليوم الأول لظهور هذه الجائحة أخطاء قاتلة تسببت في وفاة عشرات الآلاف عندما قالت إن الفيروس لا ينتقل بين البشر، ثم أتبعتها بسلسلة أخطاء حول السفر والكمامات وانتقال الفيروس في الهواء، إلى الحد الذي أصبحنا معه لا نعرف هل كل هذه الأخطاء كانت بحسن نية أو غير ذلك.
وبالنسبة للمغرب فهناك توقعات غير رسمية متفائلة، أرجو صادقا أن تتحقق، تتوقع أننا سنصل إلى سقف 2220 حالة إصابة بسبب الفيروس في السابع والعشرين من هذا الشهر، بعدها سيتم تسطيح المنحنى وسيبدأ في النزول خلال الشهر المقبل، وخلال الأسبوع الأول منه سيسجل المغرب صفر حالة، أي من المحتمل إذا كان هذا التوقع صحيحًا أن يكون المغرب الشهر المقبل خاليًا من الفيروس. هذا طبعًا في حالة الالتزام الصارم بالحجر الصحي.
ومع ذلك يبقى سؤال: متى سنخرج، يطرح نفسه بحدة.
أولًا الحجر الصحي في المغرب ليس شاملًا بل هو جزئي، فالناس يخرجون للعمل وهناك حالات معينة محددة قانونيًا لمغادرة البيت. لذلك فالخروج من الكهف لن يكون سوى تدريجيا، وهناك قطاعات حيوية يمكن أن يبدأ فيها العمل كقطاع البناء، لماذا أركز على قطاع البناء؟
لأنه أولًا قطاع عندما يتحرك تتحرك معه قطاعات عديدة وبالتالي تدور عجلة الاقتصاد.
ثانيا يجب أن تواكب البنوك هذا التحرك، وتمنح الراغبين في اقتناء شقق سكنية قروضًا بفوائد جد منخفضة حتى يتمكن الناس من اقتناء مساكن في الإقامات الجديدة المجهزة بأماكن التسوق ويتم تخفيف الضغط على الأحياء السكنية المكتظة، مما سيسهل على رجال السلطة عملهم وسط هذه الأحياء المتخمة بالأسواق العشوائية والأزقة الضيقة التي تشكل بؤرا لانتشار العدوى.
ثالثًا يجب أن نفهم أن خروجنا من بيوتنا بعد كورونا لن يكون مثل خروجنا قبلها، فعندما سنخرج من المؤكد أن الفيروس سيكون ما زال بيننا. بمعنى أننا سنخرج في يد الله، وكل ما يمكن أن نحظى به هو “الخدمة الدار الدار الخدمة”، فلا شيء يؤكد أن الفيروس سينحسر في أشهر الصيف ولا أنه إذا انحسر لن يعود مع الخريف والشتاء المقبلين، ولا نعرف هل الذين أصيبوا به أصبحوا محصنين من الإصابة به مجددا، بل إننا نكتشف اليوم أن حتى الذين يشفون من الفيروس فإنه لا يغادر أجسادهم مباشرة بعد ذهاب الأعراض الإكلينيكية.
وأحسن وصف قرأته لهذه الوضعية هو ما كتبه الصديق الشاعر والطبيب ببلجيكا نبيل أكنوش والذي أصيب بالفيروس وكتب أنه يشعر بأنه أصبح حليفا للفيروس بعدما أخبره الطبيب المشرف على حالته “نعم لقد شفيت لكن من الأفضل أن تشتغل فقط في الوحدات التي تستقبل مرضى الكوڤيد 19 لأنك تشكل خطرًا كبيرًا لنقل العدوى، فالفيروس ما زال بداخلك رغم الشفاء”.
وصف آخر أبدع فيه الفيلسوف الفرنسي ميشيل أنفراي عندما وصف سفره من المارتينيك إلى فرنسا عبر الطائرة في عز الحجر وسط هواجس ومخاوف الإصابة بالفيروس، وكيف جعلنا هذا الفيروس نتقدم في الحياة كما لو كنا في ساحة حرب، يمر الرصاص بجانبك فيصيب من يصيب ويجرح من يجرح فيما آخرون يتقدمون دون أن تصيبهم أية طلقة. الفيلسوف يرد سقوط البعض واستمرار البعض الآخر في التقدم للصدفة لا غير، لكن نحن المؤمنون بوجود الله نسمي ذلك القدر.
ووسط هذا المشهد القيامي الذي تسبب فيه هذا الفيروس يحضرني المشهد الأخير في سلسلة لعبة العروش عندما يتعاظم “جيش الموتى” الذي يقوده “ملك الليل” لإسقاط السور العظيم، الذي ليس بالنهاية سوى سور مناعتنا الذاتية.
وكم أجد “ملك الليل” هذا، المرادف في السلسلة للموت الصامت، مشابهًا لفيروس كورونا، فكلما أصاب شخصا من الأحياء إلا وضمه إلى جيشه كحليف لكي يقاتل إلى جانبه وينقل عدوى الإصابة إلى الأحياء الآخرين.
لذلك فبقاؤنا في البيت خلال فترة الحجر الصحي هو نوع من تفويت الفرصة على “ملك الليل” هذا لكي لا يضمنا إلى جيشه الذي ينشر عدوى الموت بين الأحياء.
وكما يترقب في السلسلة سكان قلعة وينترفيل وحراس السور العظيم الشتاء كموسم طويل وقاتل فإن البشرية سوف ستبدأ في ترقب مواسم الشتاء كمعارك طاحنة مع كتائب الفيروسات التي تعدل من قدراتها في كل مرة لكي تخرب سور مناعتنا الذي لطالما اعتقدناه عظيما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى