هل سلم الأمريكيون أفغانستان لـ«طالبان»؟
عبد الإله بلقزيز
«ما حدث في الخامس عشر من غشت في أفغانستان، كان مفاجئا خارج التقديرات وغير متوقع».
هذا لسان حال أكثر المعلقين على حدث سقوط كابول وكل أفغانستان في أيدي مقاتلي حركة «طالبان»: وزراء خارجية، وزراء دفاع، مديرو أجهزة استخبارات، خبراء استراتيجيون، إعلاميون، صحفيون… إلخ يجمعون على ذلك، من غير أن ينتبه أحد منهم إلى أنه يدين عقله و«تحليلاته» وتقديراته، قبل يوم أو يومين مما حدث.
قد نلتمس العذر لكثير من المتفاجئين، ممن يتوقعون نظريا أو يقرؤون فناجين المستقبل من غير أن يستحوزوا على النزر اليسير من المعلومات (الاستخبارية) الدقيقة؛ وهذه حال الكثرة الكاثرة من المتكلمين على الشأن الأفغاني والشؤون الدولية عامة. غير أن الذي سيكون، حقا، موطن استغراب أن يكون وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في جملتهم! لم يجد الرجل ما يعلق به على اقتحام «طالبان» كابول، سوى أن القوات المسلحة الرسمية لم تقو على الدفاع عن البلاد!
ألم يكن في علمه وتحت تصرف إدارة رئيسه من المعلومات الأمنية والاستخبارية – المستقاة من الجيش الأمريكي في أفغانستان ومن الأجهزة الأمريكية العاملة في الميدان – ما ينبه الإدارة الأمريكية والبنتاغون والخارجية إلى أن الجيش الأفغاني؛ الذي جرى صرف أزيد من ثمانين مليار دولار على تكوينه وتسليحه وتأهيله، في السنوات الماضيات، والذي ترك له الجيش الأمريكي المنسحب أرقى المعدات والآليات في القواعد العسكرية التي أخلاها، لن يكون قادرا على الصمود في وجه زحف مقاتلي الحركة، وأن على واشنطن، بالتالي، أن تجد طريقة لدعم حليفها الأفغاني وإنقاذه من مصير كالح، بل وإنقاذ صورة الولايات المتحدة في العالم من التهمة القديمة/ الجديدة بأنها تتخلى عن حلفائها في اللحظة الأخيرة لتنجو بجلدها وحدها!
في كل حال، يصدق هنا القول الدارج: إذا كان الأمريكيون قد أخطؤوا توقع انهيار النظام الأفغاني، بهذه السرعة القياسية، بعد انسحابهم فتلك مصيبة، وإذا كانوا توقعوا ذلك الانهيار حتى قبل الانسحاب، فالمصيبة أعظم. وهي أعظم لأن معنى ذلك أنهم رتبوا، سلفا، لهذه النهاية الكالحة، وأن «طالبان» كانت شريكا لهم في هذا الترتيب.
لا، أبدا، ليس مفاجئا ولا خارج التوقع ما حدث من انهيار شامل للنظام الأفغاني ومن سيطرة كاملة لحركة «طالبان» على السلطة والبلاد؛ كان ذلك محبوكا الحبكة السياسية الجيدة في
«مفاوضات التسوية» التي تجري بين ممثلي الحركة وممثلي النظام منذ زمن؛ والتي هي، على الحقيقة، الاسم المستعار لمفاوضات تسليم الأمريكيين السلطة إلى حركة «طالبان»!
البينات والقرائن على ذلك كثيرة، لعل أظهرها أن مفاوضات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان جرت، في المقام الأول، مع حركة «طالبان» لا مع الحكومة. وهو ما يعني أن تفاصيل كثيرة منها دارت حول ما بعد الانسحاب وترتيبات تكوين السلطة وعلاقات واشنطن بأفغانستان بعد جلاء قواتها، وربما حتى الأدوار المطلوبة من الحركة في المحيط الإقليمي لأفغانستان. وقد لا يكون مستبعدا أن الأسلحة والمعدات الأمريكية المتروكة في القواعد، إنما هي عطاء أمريكي لتعزيز قوى الحركة في إنجاز أدوار إقليمية قادمة.
لا يحتاج المرء منا إلى فائق ذكاء ونباهة، ليدرك أن مجرد إعلان إدارتي دونالد ترامب، السابقة، وجو بايدن الحالية اعتزامهما الانسحاب عسكريا من المستنقع الأفغاني، هو اعتراف بالكلفة الباهظة لاحتلال هذا البلد، بشريا وماديا، وبتواضع النتائج المتولدة من عملية احتلاله. لكن الأهم من هذا الاعتراف، الذي لا يخفيه الأمريكيون منذ أيام باراك أوباما، هو الاعتراف (الذي يصرون على إخفائه) بأن البلد واقع، لا محالة، في قبضة حركة «طالبان»، ما إن يشرعوا في الانكفاء العسكري عنه.
وإذا كانت الولايات المتحدة، إدارة وجيشا، قد رتبت على هذه الحقيقة التحتية مفاوضات تدور على ترتيبات ما بعد الانسحاب، فإن المفاوضات هذه لا يمكنها أن تكون سوى مع القوة الفعلية التي تسيطر على الميدان في البلاد (طالبان)، ولا يمكن لمن يجريها أن يتوقع مشهدا آخر ختاميا غير الذي رآه العالم في كابول في الخامس عشر من الشهر الجاري. وكل حديث عن المفاجأة «… حديث خرافة يا أم عمرو!».